في مديح صبية بهية
الفنانة محسنة توفيق
يرى البعض أن أعمال المبدعين ليست بالضرورة انعكاسا لأفكارهم وقناعاتهم الخاصة، والعكس -أيضا- صحيح، فلا يجب أن تكون الحياة الخاصة للمبدع أحد معايير تقييم أعماله، ربما يشكل الموسيقار الألماني فاجنر المثال الأكثر وضوحا، فمبدع الأوبرا الرومانسية "المركب الشبح/الهولندي الطائر" كان شخصا شديد العنصرية آمن بأن الحضارة الغربية في طريقها للانهيار بسبب تزاوج الأجناس الأرقي -في رأيه- مع من هم أدنى "السود"!!، رحل فاجنر وكذلك أفكاره ولم يبق سوى موسيقاه التي خلدته كأحد مبدعي الأوبرا عبر التاريخ.
محسنة توفيق المولودة في أواخر العقد الرابع من القرن الماضي، الأخت الصغرى لفضيلة توفيق الإعلامية الشهيرة بـ "أبلة فضيلة" ويسرا توفيق التى عملت كمغنية سوبرانو بالإذاعة الإيطالية، لعبت الصدفة دورا هاما في اتجاهها للتمثيل حين اختارها الراحل عبد الرحمن الشرقاوي لتمثل في مسرحيته "مأساة جميلة" وهي لم تزل بعد طالبة في كلية الزراعة، لتقدم بعدها بعشر سنوات دورها الأهم، "بهية" في فيلم (العصفور) إخراج الراحل يوسف شاهين، "بهية" الخياطة الكادحة والتي تجمعها الأقدار بمختلف شرائح المجتمع المصري بما فيهم من حالمين وأفاقين الذين تجمعوا بشكل ما حولها، فهي رمز للروح المصرية بما فيها تناقضات، أصبح مشهد "بهية" المهزومة وهي تجري في الشارع صارخة: "لأ، أنا بهية بقول لأ، هانحارب، هانحارب"معبرا عن الإرادة الشعبية التي تقرر تحدي الهزيمة التي تسبب فيها تخاذل أولئك القابعين على كراسي السلطة.
لم يُعرض فيلم (العصفور) بسهولة بل تأجل عرضه عامين كاملين لتعرضه بالانتقاد لثورة يوليو وغيرها وتم أخيرا الموافقة على عرضه عام 73 بعد انتهاء الحرب.
اختارت محسنة الحياة خارج الحسابات الآمنة، أن تُناطح السُلطويات وتفضح مثقفيها المنبطحين، سواء عبر آراءها المباشرة أو بشكل غير مباشر عبر الفنون، أن تصارع عُهر السُلطة وتدليسها، تفضح جرائمها والقُرَح والتفسخات المجتمعية التي سببتها سنوات الفقر وغياب العدالة بأنواعها.
"من الواضح أن السلطة المصرية بحثت عن فرقة طبالين يرددون ما تريد هي قوله".محسنة توفيق لجريدة الأخبار اللبنانية عام 2006، تعليقا على سفر جمال مبارك إلى لبنان على رأس وفد ضمّ 70 شخصية فنية واجتماعية وسياسية.
"أنيسة بدوي"بنت الأصول في "ليالي الحلمية" والتي ينادونها ب"الهانم" حبا رغم أنها لم تكن ذات ثراء، المنحازة للطبقات الأقل حظا في مجتمعها، ترفض أن تكون جزءا من منظومة القهر، ترفض الظلم وإن اقترفه أقرب الناس إليها، تهاجم محاولات أصحاب رؤوس الأموال التعامل مع البشر وخياراتهم الحياتية باعتبارها سلع لها ثمن يمكن دفعه، "البشوات الجُداد" كما وصفهم الراحل أسامة أنور عكاشة في النص المبدع.
استمرت محسنة بعيدا عن الكاميرات في محاربة "البشوات الجُداد"، اليسارية التي ذُكِرَ اسمها أكثر من مرة في وثائق اليسار المصري في فترة الستينات من القرن الماضي، بما للفترة وللتيار المنتمية له من إيجابيات وسلبيات، رغم تقدمها في العمر تستمر في اهتمامها بالعمل العام، تعلن مقاطعتها للانتخابات الرئاسية عام 2005 لأنها ترى أن استمرار أي رئيس في منصبه لخمس فترات هو فعل غير ديموقراطي ولو حاولت انتخابات ما أن تُسبغ على بقائه صفة الشرعية.
دفعت ثمنا باهظا لمواقفها السياسية، أصبحت من المغضوب عليهم، جهرها بمعارضة نظام حسني مبارك جعل المنتجين يتحاشون التعامل معها، وكان دورها في مسلسل "المرسى والبحار" آخر ما عُرض لها من أعمال رغم الكلمات التشجيعية لمخرج العمل أحمد صقر وتنبؤه بأن مسيرتها الفنية ستشهد انتعاشا يعيدها للوقوف المستمر أمام الكاميرا لتخاطب جمهورها.
"ولكن لحسن حظى لم أعلق آمالاً كثيراً على كلامه وفهمت الحكاية وأن هذا العمل هو آخر عمل أقدمه". في تصريح لها لجريدة اليوم السابع عن مسلسل "المرسى والبحار".
"تُعتبر لحظة خروج الناس إلى الشارع أكثر اللحظات عمقا وأهمية لأنها تحرر الفرد من إحساسه بالخوف وشعوره بالنقص وتلافي قيمته كإنسان". محسنة توفيق في تصريح صحفي أثناء زيارة للبنان عام 2007.
"عايزة أبلغ رسالة لشعب تونس، ده عمل ثورة، ده بدأ ثورة، ما تديش رقبتك للنخب، ما تديش رقبتك لأحزاب المعارضة، الطلعة دي ما ترجعوش منها البيوت، لا تقبلوا الالتفاف عليكم بحجة الاستقرار، ما تيأسوش، ده أعظم شىء اتعمل في تاريخنا من سنين، واحنا معاكم، احنا بعديكم".أجزاء من رسالة محسنة توفيق للشعب التونسي بتاريخ 17 يناير 2011.
رغم أن الذاكرة الشعبية ارتأت أن تفصل بين الإبداع وبين الحياة الشخصية للمبدعين وآرائهم في شتى المجالات طالما نأى هؤلاء المبدعون بأنفسهم عن محاولات السُلطة بجعلهم جزءا من "بروباجاندا" تردد وتروج أفكارها، إلا أن محسنة كانت أكثر قسوة، كانت ترى أن الأغلبية من الفنانين والمثقفين المصريين خذلوا الثورة -بحسب تعبيرها- حين قرر أغلبهم ألا يكون بلا موقف خصوصا في الأيام الأولى من الثورة، كانت ترى أن 25 يناير 2011 هو "حدوتة ثورية" قام بها شباب شرُفت بأن شاركتهم مجدهم، جلست وسطهم في قلب ميدان التحرير، في قلب الكعكة الحجرية، تردد معهم كلمات الفاجومي "مصر يامه يا بهية".
في المسرحية الشعرية "منين أجيب ناس" التى ألفها الراحل نجيب سرور والتي عُرضت من خلال المسرح الجوال عام 1985 أدت دورا تحريضيا يهاجم الفساد المستشري، "نعيمة"حبيبة البطل "حسن" الذي قطعوا رأسه من أجل أن يسكتوه، في رمزية لكون "البلد" أصبحت بلا رأس، بلا عقل يفكر ويخطط، جسد "حسن" ألقوه ليتخبطه التيار لينجرف ويتعفن كحال الدولة حين تكون القرارات المصيرية تُتخذ دون تخطيط، بينما "نعيمة" حتى الآن مازالت مستمرة في بحثها عن "الناس"!.
منـيـن أجيـب نـاس .. لمعناه الكلام يتلوه!
ويقولوا مرة الحقيقة .. لـيه حـسـن قتلوه!
ونعيـمة ليه قلبـها .. ف عز الربيـع خنقوه!
تدعم ولدها الناشط السياسي "وائل خليل" وتشاركه الوقفات السياسية المعارضة قبل الثورة وبعدها، تجدها وهي في عقدها الثامن من العمر تتحرك بحماس لتشارك الشباب حدوتهم -كما وصفتها-، تحضر تكريم الأطباء والمسعفين الذين خاطروا بحياتهم لانقاذ مصابي الثورة، تشارك في حضور الفاعليات الثورية، بروح تأبى الهزيمة وعزيمة لا تلين تواصل سعيها من أجل الحرية والعدالة والكرامة.
"النظام لم يسقط حتي الآن ومازال قائم، ولكنه قائم بدون مبارك، الأبرياء يدخلون السجون ويحاكمون بينما المجرمين الحقيقيين لم يحاكموا وسوف يحصلون علي البراءة قريبا" محسنة توفيق في مؤتمر بنقابة الأطباء، ديسمبر 2011.
شاركت محسنة توفيق في تظاهرات الثلاثين من يونيو ضد حكم الاخوان المسلمين والتي أثارت جدلا مازال مستمرا حتى الآن عن كون هذه الاحتجاجات ونتائجها تشكل ردة وانتكاسة لمكتسبات الثورة، ولكن رغم الجدل السياسي كان لها موقفا واضحا من فض اعتصام أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي، حيث رأت أن ماحدث هو إجرام قامت به قوات الداخلية، وهاجمت تغطية وسائل الاعلام لما حدث واصفة له بأنه "إعلام عدو"، وأبدت احترامها لاستقالة الدكتور محمد البرادعي من منصبه كنائب رئيس الجمهورية للشئون الدولية رغم اختلافها السابق معه حول العديد من القرارات. الأمر الذي أغضب مسئولي السُلطة فرغم أنهم منحوها جائزة "الدولة التقديرية" إلا أنهم عادوا ومارسوا تعنتهم المعهود فتم منع عرض مسلسل "أهل اسكندرية" في عقاب جماعي لها ولشركائها الممثلين عمرو واكد وبسمة ومؤلف العمل بلال فضل كونهم رفضوا أن يسبحوا بحمد السلطة الجديدة وتأييدها تأييدا غير مشروط.
وصفها يوما المخرج الكبير الراحل يوسف شاهين بأنها من "مجاذيب السينما المصرية"، ويبدو أنها أرادت ما هو أكثر، أرادت أن تكون من المجاذيب أمام الكاميرا وبعيدا عنها، أحد المجاذيب الذين مسهم حب الوطن.
"يشعر المثقف اليوم بالحزن. لذلك من المهم أن يلتحم بالناس الذين لا يهتمون بالسياسة أو الثقافة وبعد ذلك سيخرج من بين هؤلاء ما يسمى ب "المثقف العضوي" الذي يستطيع التفاعل مع الآخر الذي عاش معه ذات التجربة فيتشاركا سويا في تغيير مسار المجتمع". لـ بهية، ممثلة وناشطة سياسية وشهرتها "محسنة توفيق".