اسطورة الفيل و طير ابابيل ...
لا يخفى علينا أنّ السيرة النبويّة بصحيحها و ضعيفها، مكتوبة بعد أكثر من قرن ونصف من وفاة محمّد، اعتمد فيها الإخباريّون على قناة شفويّة تمرّ من جيل إلى جيل، عبر قال فلان وقال فلتان وحدّثني علاّن ، وهذا النوع من الأخبار يدخل في باب الموروث الشعبيّ والإشاعات والأساطير أكثر ممّا يدخل في باب الحقائق التاريخيّة ، ولا يُعتدّ بمعلومات كهذه في الأبحاث العلميّة التي تقوم على الأركيولوجيا أو على أقلّ تقدير تبحث في تنوّع النصوص. فينبغي ألاّ نعتمد على السيرة العربيّة وحدها، وأن نبحث أيضا في ف
وجاء عبد المطلب يطلب إبلاً له أخذها جيش أبرهة، فقال له أبرهة : كنتَ قد أعجبتني حين رأيتُك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أخذتها منك، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك، قد جئتُ لهدمه، لا تكلمني فيه ! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت رباً يحميه، فقال أبرهة: ما كان ليمتنع مني ، وأما قريش ففروا من أرض الحرم إلى رؤوس الجبال، يحتمون بها، ويترقبون ما الذي سيحل بأبرهة وقومه ، فلما أصبح أبرهة عبأ جيشه، وهيأَ فيله لدخول مكة ، فلما كان في وادي محسر-بين مزدلفة ومنى- برك الفيل، وامتنع عن التقدم نحو مكة، وكانوا إذا وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق انقاد لذلك، وإذا وجهوه للكعبة برك وامتنع، وبينما هم على هذه الحال، إذ أرسل الله عليهم طيراً أبابيل -ومعنى أبابيل يتبع بعضها بعضاً- مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجر في منقاره وحجران في رجليه، لا تصيب منهم أحداً إلا تقطعت أعضاؤه و ابادت الجيش.
النقد النصي للسيرة هذه تتلخص بالتالي ، اولا: ان السيرة تبين لنا ان عبد المطلب جد محمد هو انسان جبان متخاذل هرب من الدفاع عن مقدساته و لم يفكر الا باهله و ابله ، فهل يعقل في الوقت الحالي ان نترك مقدسات المسلمين لداعش تهدمها زاعمين ان لها رب يحميها ثانيا: لماذا يدافع الله عن الكعبة المدنسة بالأوثان ضد أبرهة المسيحي ؟ و في ذلك الوقت كانت المسيحية هي الديانة الصحيحة التي يرضاها الله و كانت قريش تغوص في الوثنية و الشرك فكيف ينتصر الله لقريش عبده الاصنام , ثم ابرهة و جيشه ذهبوا لكي ينشروا دين الله و لم يكونوا يعلموا اصلا ان الكعبة بيت ابراهيم و لم تكن شائعة و لو كانوا يعلمون لكانوا اكثر حرصا عليها قو لجعلوها مزارا و بنوا فيها كنيسة و هدموا الاصنام الوثنية ، هذا يضطرنا الى الاعتقاد ان مسالة ان كعبة قريش بيت ابراهيم لم تكن شائعة انذاك و انها ادخلت حديثا و و الا لماذا ترك الله نبيه يتوجه للمسجد الأقصى في صلاته سنوات طوال ثم رجع في كلامه ووجهه ناحية الكعبة !؟ هذا اذا اضفنا كيف امكن لابرهة جلب الفيلة و العرب لم تكن تعرف الفيل و لا هو ممن يعيش في شبه الجزيرة العربية!؟ لذا فان الرواية لا تصمد امام النقد النصي .
من ناحية اخرى هدمت الكعبة اكثر من اربع مرات اشهرها لما هدمها الحجاج بن يوسف الثقفي عندما حاصر عبد الله بن الزبير و هدم الكعبة بالمنجنيق و مثله فعل ابو طاهر القرمطي سنة 317 هجرية و هنا نذكر رواية هدم الكعبة من قبل ابو طاهر القرمطي ، هذه هي القصة كما جاءت في كتاب البداية والنهاية - للإمام الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل ابن كثير:
خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمي فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافدت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول: أنا الله وبالله أنا، أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا ، كان الناس يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم شيئاً، بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف، فلما قضى طوافه أخذته السيوف، فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة ، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثيراً منهم في أماكنهم من الحرم ، وهدم قبة زمزم وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها عنها، وشققها بين أصحابه ، وأمر رجلاً أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه، فسقط على أم رأسه فمات إلى النار ، فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب، ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود، فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردوه، كما سنذكره في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وجاء في صفحة 142 من كتاب ( من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام ) كما ذكرت القصة في مراجع أخري ومنها النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لجمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي حيث قال :
سير المقتدر ركب الحاج مع منصور الديلمي فوصلوا إلى مكة سالمين فوافاهم يوم التروية عدو الله أبو طاهر القرمطي فقتل الحجيج قتلا ذريعا في فجاج مكة وفي داخل البيت الحرام لعنه الله وقتل ابن محارب أمير مكة وعرى البيت وقلع باب البيت واقتلع الحجر الأسود وأخذه وطرح القتلى في بئر زمزم وفعل أفعالا لا يفعلها النصارى ولا اليهود بمكة ثم عاد إلى هجر ومعه الحجر الأسود فدام الحجر الأسود عندهم إلى أن رد إلى مكانه في خلافة المطيع على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وجلس أبو طاهر على باب الكعبة والرجال منشدا : أنا لله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا ، ودخل رجل من القرامطة إلى حاشية الطواف وهو راكب سكران فبال فرسه عند البيت ثم ضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره ثم اقتلعه وكانت إقامة القرمطي بمكة أحد عشر يومًا " ، لم يحج أحد منذ سنة سبع عشرة وثلاثمائة إلى سنة ست وعشرين وثلاثمائة خوفا من القرامطة " ثم رد الحجر الاسود بعد 23 سنة بعدما اشتراه الخليفة المطيع لله بخمسين الف دينار.
ترى اين كان الله يوم هدم و اعتدى الحجاج و ابو طاهر القرمطي ! اين طير الابابيل و حجارة من سجيل !؟
يبقى احتمال ان القران كان يتحدث عن قصة لا علاقة لها بالكعبة و سورة الفيل تشير الى ابادة اصحاب الفيل من دون ان تشير الى مكة و الكعبة و ابرهة و هجومه و انما اتت التفسيرات بعدها بأكثر من 150 سنة ، تاريخيا و اثريا النقوش الأركيولوجيا وهي أصحّ من التاريخ المكتوب وكذلك الأبحاث تشير إلى أنّ أبرهة قام بمهاجمة عرب جنوب الحجاز بين سنوات 540 و 552 ميلادي تقريبا، أي قبل 20 سنة من مولد محمد الذي اتفق المسلمين على ولادته في عام الفيل ! وتاريخ ولادة محمد لا علاقة له بسورة الفيل ، و القران لا يشير الى ولادة محمد في سورة الفيل فيقول: (الم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) مثلما يقول: (ألم تر كيف فعل ربّك بعاد) ، فهذا لا يعني ان محمد ولد في زمن عاد مثلا ! وقد تكون القصّة اصحاب الفيل أصبحت أسطورة ودخلت في الموروث الشعبيّ بعد مائتيْ سنة ثمّ ربطها الإخباريّون بوقت ولادة النبيّ محمّد لإضفاء بعض المعجزات عليه وعلى الكعبة قبل ولادته وربطها بسورة الفيل في القرآن.
وأبرهة لم يهاجم الكعبة وإنّما توقّف في جنوب الحجاز على مسافة أربعمائة كيلومتر من مكّة ، ونحن نعرف نقوش أبرهة وهي ثلاثة نقوش، الأوّل تحت الرمز CIH 541 وهو نقش بتاريخ 549 ميلادي، والثاني تحت الرمز RY 506 بتاريخ 552 ميلادي، والثالث تحت الرمز Ja 544-547 بتاريخ 558 ميلادي، وعلى الأغلب فإنّ أبرهة توفّي قبل سنة 560 ميلادي، والنقش الذي يهمّنا هنا هو نقش بئر المريغان RY506 المؤرّخ بسنة 552 ميلادي ويشير النقش إلى أنّها الحملة الرابعة لتأديب القبائل العربيّة الثائرة، وكان ذلك في شهر أفريل إثر ثورة بني عامر، ويذكر الأماكن التي خرجت لأجلها هذه الحملة وهذا هو نصّ النقش :
بقوّة الرحمن ومسيحه الملك أبرهة زيبمان ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وقبائلهم (في) الجبال والسواحل، سطر هذا النقش عندما غزا [قبيلة] معد [في] غزوة الربيع في شهر "ذو الثابة" (أبريل) عندما ثاروا كل [قبائل] بنى عامر، وعيّن الملك [القائد] "أبا جبر" مع [قبيلة] علي [علا؟ علي؟] [والقائد] "بشر بن حصن" مع [قبيلة] سعد [وقبيلة] مراد، وحضروا أمام الجيش ـ ضد بنى عامر [وقد وجّهت] كندة وعلي في وادي "ذو مرخ" ومراد وسعد في واد على طريق تربن وذبحوا وأسروا وغنموا بوفرة وحارب الملك في حلبن واقترب كظل معد (وأخذ) أسرى وبعد ذلك فوّضوا [قبيلة معد] عمرو بن المنذر [في الصلح] فضمنهم ابنه (عروة) (عن أبرهة) [فعيّنه حاكماً على] معد ورجع (أبرهة) من حلبن بقوة الرحمن في شهر ’’ذو علان’’ في السنة الثانية والستين وستمائة [552 ميلادي].
وكما يذكر هذا النقش فإنّ أبرهة لم يذهب بنفسه وإنّما توقّف على مسافة أربعمائة كيلومتر جنوب مكّة وأرسل بعض الحملات المتفرّقة، هنا وهناك، وأقرب منطقة وصلتها حملته هي قوله : (في واد على طريق تربن) وهو أنّ (تربن) من الممكن أن تكون مكانا يقع على بعد 190 كيلومترا شرق مكّة لكن تظلّ مكّة في كلّ الحالات بعيدة عن حملة أبرهة أركيولوجيّا وقرآنيّا أيضا، كما أنّ أبرهة عاد منتصرا ولم يتعرّض لا لطيور أبابيل ولم يصبح كالعصف المأكول.
من ناحية اخرى ذكر المؤرخ " بروكوبيوس" ظهوره في بيلوز "554 م" وفي القسطنطينية "569 م" وباء الجدري و يرى أ. يوسف أحمد ( المحمل والحج : ص 77) أن هذا الوباء قد جاء من منطقة مجاورة لبلاد العرب عن طريق بعض الطيور وإذا أضفنا لذلك الوباء أن حملة أبرهة هذه قد وقعت في جو شديد الحرارة ربما كان في شهر تموز ، أمكن لنا عندئذ أن نتفهم الظروف الموضوعية لهزيمة حملة "أبرهة" على مكة , وعودة "أبرهة " إلى اليمن مهزوما/ مريضا ليموت هناك كما تذكر الروايات الاسلامية وذلك بعيدا عما شاع بين العرب بعد ذلك عن قتال الله مع أهل البيت والذي كفاهم مؤونة عدوهم وردده القرآن بعد ذلك كصدى للدعاية الدينية السياسية لقريش وكعبتها .
ان اسطورة اصحاب الفيل لها اثر تاريخي استمدت منه فمن المعروف أن الملك الفارسي "قمبيز الثاني" لما غزا مصر حوالي "525 ق.م" قد وجه إحدى حملاته لهدم معبد الإله المصري "إمن" بواحة سيوة الواقعة في بيئة صحراوية قاسية أيضا "صحراء مصر الغربية , نظرا لما رآه قمبيز في هذا المعبد كمصدر لنبوءات لم تعجبه ولعدم الاعتراف به سيدا على مصر, ويذكر لنا هيرودوتوس أن حملة "قمبيز" هذه قد هبت عليها عاصفة رملية شديدة أفنت هذه الحملة عن آخرها، ولم يرجع منهم احد ، يكتب هيرودوتوس:" رياح عاتية انطلقت من الجنوب تتقدمها سهام من الرمال، اغرقت الجنود تماما وابتلعتهم ولم تبقي منهم اثر". والمعبد الذي بقي صامدا، لاشك ان كهنته كانوا على ثقة تامة ان الاله المصر قد حماهم، فذاع صيت المعبد الى درجة ان صيته الإسكندر المقدوني حرص على زيارته للتبرك به بعد غزوه لمصر(332 ق.م) ! و انتشر بينهم انه ( لقد كان لمعبد سيوة رب يحميه !؟) من هذه الأمثلة نفهم أن عقلية الإنسان القديم و خاصة العربي كانت تنظر للأمور العظيمة بحسبانها أعمالا جبارة من صنع آلهة خفية.
اما انسان العصر الحديث والذي تفصله عن هذه العصور البعيدة مئات السنين والذي يعيش في زمن الثورة العلمية RY506 المؤرّخ بسنة 552 ميلالهائلة حيث يمكن تفسير الظواهر الطبيعية بردها لأسبابها الموضوعية الغيبية , ليس مضطرا لأن يعتقد الله هو الذي أنقذ الكعبة من أبرهة إلا بقدر اعتقاده في آمون هو الذي أنقذ معبده من قمبيز!
.
لاحظ نقش بئر المريغانادي في الصور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق