مقطورةُ الإستراحة لطالب مُغترب|
في غضونِ شهرين أتُمَّ العامين على غربتي و وحدتي ،صحيحٌ أني كُنت في ذروةِ فرحي في ليلة السفر محدثاً نفسي: وأخيراً سأتحرر من هذا السجنِ الكبير و أدرسُ طب الأسنان في الخارج كما تمنيت وأفعلُ كل ما يحلو لي وابدأ بتحقيق أول أهداف حياتي ،لكني كنتُ أخبأُ دموعي لحظة الوداع و كنتُ أتمنى ألا أفارق والديّ ودفئ قلبيها ،و صحيحٌ أني الأن أُتقن لغةَ الأوكراينسكا موفا وملامحي العربية تكادُ أن تتلاشى بعد أن سرقت الثُلوج منها لونها القمحيّ حتى أنهُ للوهلةِ الأولى تظن أني أنتمي لهذهِ الأرض ،لكني إشتقتُ إلى مُناخنا الحار بعض الشيء وأطيرُ فرحاً إن وجدت أحد الفلسطينين بالصدفة أو من يتحدثُ العربية ،و صحيحٌ أني أملكُ العديد من الأصدقاءِ و زملاء الدراسة وأتسكعُ معهم في بعض الأحيان ونذهب إلى شواطئِ البحر الأسود في الإجازات ،لكن من يُغنيني عن صديقي الصغير أخي و فعلياً لا أجدُ مثل الاصدقاء الذين حاولوا جاهداً السفر معي و الذين أصبحنا الأن لا نتحدث إلا لمراتٍ قليلة أو بالمناسبات ،و صحيحٌ أن صديقتي ساشا تملكُ اللازورد في محجريّها و نمشٌ خفيفٌ يُزين ساحلَ وجنتيها وتملكُ دفء الڤودكا في ثنْياتِ شفتيّها وأياتٍ من الكوثر تُقرأُ في خصلاتِ شعرها الأشقر و عطرُ زهرة الكونفالاريا الفضية تستنشِقهُ إن كنتَ على قربٍ من أنفِها الأخنس و على حبالها الصوتية تُعزف موسيقى تشايكوفسكي و نرقصُ سوياً البولكا و هي و عائلتها البسيطة يحبونني جداً ،لكني لا أشعرُ بالحب إلا لعينيها القهوائيتين ولا أشعرُ بالدفءِ إلا على شفتيّها الخَمْريَّتين ولا أعرفُ النوم إلا في الليلِ الذي يُغطي جِيدِها ولا تطربُ روحي إلا بعطرِ الورد الدمشقي الذي يفوحُ من أنفاسها ولا أجدُ أعذب من الموسيقى الملائكية في حنجرتِها ،حبيبتي تلك التي تملكُ دفءِ المخيم في قلبها تُخبرني دائماً: أخافُ ألا تعود ثانيةً أو ألا تعود خاويَّ اليدين و القلب ،و صحيحٌ أني أقضي وقتي مُستمتعاً برقصِ النوافير و إنسدالِ الشلالات في حديقة سوفيفسكي ،لكني أُفضل الجلوس في ظلِ شجرة الأڤوكادو في بيتِنا الريفي ،و صحيحٌ أني أفطرُ كل صباح خبزاً مقليّ مع التوتِ و العسل و أُحب وجبة الستروجانوف و صديقتي أحياناً تُعد لي حساء البورش ،لكني الأن أتعطش لمنقوشةِ زعتر أو سندويشة فلافل صُحبة كوبِ شايٍ بالمليسة و أملكُ الكون إن حَظيتُ بقليلٍ من الكنافة النابلسية ،وصحيحٌ أني اقرأُ لإيفان و بوشكين و تشيخوف و تولستوي و أحضرُ حفلات الموسيقى الكلاسِكيّة ،لكني إشتقتُ لرائحة الحبر في كتب غسان و البرغوثي وقصائد درويش في مكتبتي و الأُمسيات التي نُدندنُ فيها حول عودٍ يتوسطنا أغنياتٍ للست.
في الصباحِ الأول لي ،إستيقظتُ مُنكباً على نصفيِّ الأيمن قُبالة الحائط وما زلتُ مُغمض العينان أُنادي (ماداً حرفَ الألف قدرَ إستطاعتي): ماما ،ماما ،ماما ،كانت السَكينة تُهدْهِدُ المكان إلا من صدى ندائي فتجاهلتُ ذلك لربما تكون قد ذهبت لعملِها ،سحبتُ جسدي ببطء إلى قمةِ السرير وكنتُ أشعر بتصلبٍ في أطرافي وإذ برعشةٍ باردة تسري في أوصالي لتزيدَ من إنكماشي ،فركتُ جفناي المُحاطين بكمية لم أعهدها من قبل من القذى واحداً تلو الأخر ،مما يعني أني نائمُ منذ ليلة على الأقل ،تحسستُ بيدي التومبيشكا المُلاصقة للسرير على يساري فلم أجد فنجان القهوة الذي تُعده لي أمي كل صباح ولا حتى سريرُ أخي الذي يُشاركني الغرفة ويزعجني كل صباح ،فكرتُ أن أتلحّفْ بمعطفي وغطائي ثانيةً فالمرءُ يصابُ بالنَزَق إن لم يأخذ حاجته من النوم فمثلاً عندما كنتُ أجلسُ في مقعدي شبهُ نائم بمحاذاة النافذة بعد نهاراً شاق من الإنتظار على بوابةِ معبر رفح و من ثم رحلة الترحيل إلى مطار القاهرة وإنتظارِ موعد الإقلاع ،كان يلزمُ المضيفة التي تحملُ إسم دخاوس على شمالِ صدرها الصغير أن تكرر السؤال حتى أتمكنُ من فهمِها ،بعد أن قدمت لي حلوى الخوخ الهلاميّ تأملتني قليلاً ثم تسآلت بلغتِها الركيكة : (آربي أنتي؟) ،أسعدني أنها تعرفُ العربية مما جعلنا صديقان حميمان لمدةِ ستةِ ساعات بما أني كنتُ وحيداً في رحلتي ،أوقظتني بعدما ربطت لي الحزام تُعطيني ورقة تحملُ رقمها لتطمئنَ عليّ و نتواصل في وقتِ عُطلتِها وتُخبرني أننا على وشكِ الهبوط في مطار كييڤ.
وأنتِ يا أمي أريدُ أن أُخبركِ أني أعددتُ الملوخيّة كما علمتيني و ساشا تُرسلُ لكِ التحيات و تُخبركِ أنها لزيزة جداً.
كييڤ
مايو 2015