الجمعة، 27 مايو 2016

مقال دكتورة نوال السعداوى الذى منع نشره فى جريدة الاهرام بعنوان "اتكون الطفلة ملحدة "


أتكون   الطفلة  ملحدة  ؟   
---------------------------------------   

د  نوال  السعداوي 
----------------------   

منذ  طفولتي  أتطلع  الي  الفضاء  ، أحاول  رؤية العفاريت  التي أسمع  أنها تختفي هناك ، وكانت  عيناي، رغم  نفاذهما ، لا  تريان  إلا  النجوم  بالليل  والعصافير  بالنهار   

 لأول مرة في حياتي سمعت   كلمة " الله" ، تخرج  من  فم  جدي ( والد أمي )  مشوبة بنكهة تسميها جدتي مشروبات روحية ، تمط بوزها  في وحه زوجها وتهمس  في أذني :  جدك  لا يعرف الله  ويضيع  الفلوس علي النساء  والخمر  ، ولم  يكن  جدي الآخر  ( والد أبي)  يختلف عن والد أمي فيما  يخص  النساء والمسكرات ، لكنه  مات  قبل  أن  أولد ، لحسن حظي ، وسمعت  عمتي تقول  أن  جدتي أطلقت  زغروتة ممدودة  للسماء  بعد موت  جدي     ، 
أما  أبي  فكان  رجلا  مستقيم الأخلاق ، لا يسكر  ولا  يخون أمي ،  وسمعته يقول أن  الله  هو الصدق والاخلاص والعدل  والحرية  والحب والجمال  ، وأنه  كامن  علي شكل "الضمير الحي"  داخل  كل إنسان ، رجل أو إمرأة  ، دون  تفرقة بينهما  ، هكذا أصبح الإيمان  ، في  نظري ، هو  العدل والصدق والحرية والحب والجمال  والمساواة  بين البشر   ،  
 وإتهمني المدرس  في  طفولتي بالإلحاد  لأن  إيماني  يختلف  عن  إيمانه ، وكان يؤمن أن الأولاد أفضل من  البنات ، ويري  الله علي شكل حروف  مطبوعة  في الكتاب ، ثم يطلب  مني حفظها عن ظهر قلب  دون  فهم  ، وفي  يوم  رآني أكتب  إسم  أمي  علي  كراستي بدلا  من  إسم جدي ، فطردني من الفصل ،  وأصبح  عندي  الوقت  لأقرأ  الكتب خارج  المقرر المدرسي لحسن حظي ،
       
كان سيجموند فرويد يعتبر  الأديان  ظاهرة بشرية  بدأت  تاريخيا  بشكل عصاب جماعي ، أما  إريك فروم  فقد تجاوز  الحدود  النفسية  للظواهر الدينية ، وحاول الدخول الي المجالات السياسية والاجتماعية  والفلسفية ،  ويستمر  الأطباء والعلماء  في  بحوثهم ، داخل النفس  البشرية  وخارجها ، لمعرفة  أسباب الإيمان الديني وعدم  الإيمان ، أو  ما  يسمونه :  الإلحاد 
مع  تصاعد  التيارات  السياسية  الدينية  في هذا القرن  الواحد والعشرين  ، صدرت  الكثير  من  الكتب عن  الإلحاد ، وكأنه  مرض نفسي  يغزو الشباب ، وعلاجه  عند  الطبيب ، وأدت هذه  الأفكار الي إثراء الأطباء ، وإفقار  العقل المصري ، 
قرأت مؤخرا  لطبيب مصري  يؤكد  أن  الإلحاد مرض نفسي ، يعني  عدم  الإيمان بالرب  خالق  الكون  كما جاء  في الكتاب  ، وأكد  أيضا أن علم  نشوء الكون ليس  علما ،  ونظريات التطور ( التي تنكر نظرية الخلق الدينية)  باطلة  ونوع  من  الإلحاد ، وأن هذا  الإلحاد ينتشر  بين  الشباب  مثل  الاكتئاب وأنفلونزا  الخنازير  ،
يروج  لهذه الأفكار بعض أطباء النفس ، لا تختلف  أفكارهم  كثيرا  عن رجال الدين التقليديين ،  ورثوا دينهم عن  الآباء والجدود ، لم  يعرفوا إلا القليل  عن العقائد والأديان المختلفة  في العالم ، يتصورون أن  الإلحاد هو  عدم  الإيمان بما  آمنوا به ، وأنه نقصان في العقل أو  مراهقة  فكرية  وإحساس  بالنقص ، أو  غرور  أحمق و سعي  وراء الشهوات ،   
  أربعة  مليار  من  البشر  ( أكثر  من  نصف  سكان الأرض ) لا يؤمنون بأي  دين  ، يعيشون في الصين  والهند  واليابان ، لا  يسعون وراء  الشهوات بل وراء  العمل  المنتج  المتقن ،  يتمتعون بكفاءة عقلية عالية ، وثقة بالنفس كبيرة ، جعلت  بلادهم  تتفوق علي بلاد العالم  ،  
 وأكثر  من  نصف  الشعوب  في أمريكا وأوروبا ، لم  يرثوا  الدين ، ولم يلقن لهم في المدارس ، لكن تربي عندهم  ضمير  حي ، منذ الطفولة ، وإيمان  بالعدل  والمساواة  والحرية  والكرامة ،  يخرجون في مظاهرات ضد حكوماتهم ، أو  ضد  أي  حكم  ظالم مستبد  في أي بلد في العالم ،  
    
وهناك  ملايين ورثوا دينهم  في العائلة ، وتم  تلقينه  لهم منذ الطفولة في المدارس  ، وأصبحوا يؤمنون  أنه  الحقيقة المطلقة  وغيره باطل  ،  ولم  تعد  لديهم  القدرة  علي التفكير بطريقة أخري  ،
 
تحتاج القوي السياسية الحاكمة ( شرقا وغربا)  للعقائد  والأديان ، من  أجل السيطرة  علي عقول الشعوب  وتقسيمهم  طائفيا ،  ويحتاجها  الإنسان  (الفرد ) أيضا ، لتحمل  مأساة  موته ، وقد تطور  المخ  لدي  الإنسان فأدرك  أنه  سيموت حتما  ، لا فرق  بينه  وبين النباتات والحيوانات  ، لكن  مخ  هذه الكائنات ، لم  يتطور  مثل  مخ  الانسان ،  ولم يصل  الي  الوعي  بحقيقة الموت  أو العدم  ،     ،      
 يحاول الإنسان  عن  طريق خياله  إنكار العدم   ، يتصور  نفسه  موجودا  في  حياة بعد الموت  ،  هذه  المسافة  بين  الخيال والحقيقة  ، أو بين  الحلم  والواقع ، مرحلة  في عمر التطور أو التاريخ البشري اللانهائي ، يجتازها الإنسان بالإبداع الفني  والديني أيضا ،
 لا  ينبع  الخيال من الفراغ ، بل  من  خلايا الفص الأمامي للمخ  ، حيث  تتمركز المشاعر والأحاسيس  وذكريات الطفولة  والمواهب الفنية والفكرية     ،  
وتسعي البحوث  العلمية الجديدة  لكشف  الشفرات الجينية  وأسرار  المخ  البشري  وقدراته  المذهلة  علي الخيال واكتشاف حقائق الطبيعة وقدرات الانسان  ،  
من  كان  يحلم  باستخدام الالكترونات للتواصل فوق كوكب الأرض في زمن أقل من  غمضة عين  ؟ ومن  كان يتخيل الالكترونات في الفضاء ، الذي  كان  في  طفولتنا  ملئيا بالعفاريت  ؟ ، 
وإن أنكرت  الطفلة  وجود  العفاريت  وآمنت  بأن الله  هو  العدل والمساواة  والصدق والحرية  والحب والجمال  فهل تكون ملحدة ؟

ليست هناك تعليقات: