يا مجتمع الـ15% نقدم لكم: مصرمحمد أبو الغيط
يُصابون بالصدمة في كل مرة يرون أحداً غير أنفسهم، سواء كانت المناسبة هي مأساة مركب رشيد، أو شعبية مسلسلات محمد رمضان والمهرجانات، أو جحافل المُحتفلين بالأعياد على كورنيش القاهرة. نتحدث عن قطاع كبير من الطبقتين الوسطى والعليا في مصر يحمل تصورات مُشوهة عن «الشعب المصري».
خلال الفترة الماضية أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء اثنين من أهم إصداراته، هما «بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك» و«الكتاب الإحصائي السنوي»، وعبرهما بشكل رئيسي سنناقش بعض الأساطير:
أسطورة «الناس كلها معاها فلوس وزاحمين المولات»
إذا كانت أسرتك كاملة يصل إجمالي إنفاقها الشهري إلى 4160 جنيها، يبقى ألف مبروك! أنت في أغنى شريحة من المصريين التي تنفق 50 ألف جنيه فما فوق سنوياً، وهي لا تزيد على 15.7% فقط.
نعم، 4160 جنيها شهرياً، وهو المبلغ الكافي بالكاد لتطفو أسرة فوق سطح الطبقة الوسطى، هو الاستثناء، أما باقي المصريين جميعاً فهم في الفقر أو على حافته.
هذه هي المعلومة الأولى الأساسية، نحن الأقلية والاستثناء وسط بحر هائل من الفقراء أو المستورين.. نحن الذين اعتدنا أن نقول إننا «مصر»، وإن أخلاقنا وأفكارنا وأحلامنا هي أخلاق وأفكار وأحلام المصريين، علينا أن نتواضع كثيراً.
ولو كان هناك قطاع واحد يمكن أن نسميه «الشعب المصري»، فهو هؤلاء الآخرون لا نحن، هو ناصر الدسوقي لا أبطال جراند هوتيل.
كونك تشاهد زحاماً من أمثالك في المول فتفترض أن هؤلاء هم المصريون، فهذا لا يدل على شيء أكثر من حماقتك.
***
أسطورة «محدش بيبات من غير عشا»
في شريحة أفقر 10% من المصريين يُنفق الفرد سنوياً 3332 جنيها، أي 277 جنيهاً شهرياً على حياته كلها طعاماً وملابس ومسكناً وغيرها. بالتأكيد المبلغ غير كافٍ لا للعشا ولا للغدا!
الملايين الذين يشترون عظام وأرجل الدجاج والمواشي لا يفعلون ذلك على سبيل التجديد.
الطعام لا يكفي الأطفال أيضاً. نسبة التقزُم (قِصر القامة بسبب سوء كمية أو نوع الغذاء) بين أطفال مصر أقل من 5 سنوات بلغت 21% عام 2014. ربع الأطفال في الفئة العمرية 6- 59 شهرا يعانون الأنيميا. حين تشاهد عساكر الأمن المركزي متشابهي الملامح، يجب أن تعرف أن السبب هو أنهم يجمعهم عمر كامل من سوء التغذية.
نسبة الفقراء ارتفعت إلى 27.8% عام 2015، مقابل 26.3% في 2013. خلال عامين سقط مليون و368 ألف مصري جديد تحت «خط الفقر المصري»، وهو معدل دخل 482 جنيها للفرد شهرياً. خط الفقر العالمي سيزيد الصورة سواداً.
السبب ببساطة هو ارتفاع الأسعار الذي لا يقابله ارتفاع في الأجور، معدل التضخم السنوي وصل في أغسطس 2015 إلى 10.6%، ثم قفز في أغسطس 2016 إلى 16.4%، وهو ما يعني أننا سنعرف بالإحصاء القادم أن المزيد والمزيد سقطوا...
***
أسطورة «البلد فيها بنية أساسية قوية من أيام مبارك»
يا عزيزي إذا كنت تدخل الحمام دون أن تفكر في نزح «الطرانش» فأنت محظوظ، لأن 42.2% من شعبك لا تتصل منازلهم بشبكة الصرف الصحي.
في برنامج الحكومة الحالية إحصاء بأن 15% فقط من قرى مصر لديها صرف صحي، وتستهدف الحكومة حتى 2018 الوصول بالتغطية إلى 50% فقط.
أي بنية أساسية، وأي استثمار أو تنمية تتحدثون عنها والناس لا تجد الحمامات الصحية؟!
***
أسطورة «البلد زحمة من كتر العربيات، كل الناس دي معاها فلوس»
من أكثر العبارات جهلاً على الإطلاق. الأسر التي تملك سيارة خاصة تبلغ نسبتها 7.9% فقط، أقل من أقلية.
عدد السيارات المُرخصة ملاكي في ديسمبر 2015 هو 4.1 مليون سيارة فقط على مستوى الجمهورية، أما الغالبية الساحقة من المصريين فهم هؤلاء المهروسون في المترو والأتوبيسات والميكروباصات.
مرة أخرى: كونك تشاهد الزحام من سيارات أمثالك، فتفترض أن هؤلاء هم المصريون، فهذا لا يدل على شيء أكثر من حماقتك.
***
أسطورة «المصريين بيشغلوا التكييف طول اليوم وده سبب أزمة الكهرباء»
وأسطورة «شوفوا بيجهزوا عيالهم بأجهزة وعفش أد إيه»
الأسر التي تملك جهاز تكييف هي 11.1% فقط. حوالي 90% لا يملكون ما تلومونهم عليه وأنتم تحت تكييفاتكم!
وبالمناسبة 54.4% فقط يملكون سخان مياه أصلاً، ومازالت الغالبية تملك غسالة عادية بينما لم تدخل الغسالة الأتوماتيك إلا منازل 26.3% فقط من الأسر المصرية.
إذا كان هذا حال بعض الأجهزة الأساسية فمن الطبيعي أن تكون نسب الأجهزة الرفاهية لا تكاد تُذكر، مثلاً 5.8% فقط من الأسر تملك مايكروويف أو شواية، 1.7% يملكون غسالة أطباق.
***
أسطورة «أنا دورت على سواق/ عامل وملقتش، يعني البلد مفيهاش بطالة»
عام 2015 ارتفعت نسبة البطالة إلى 12.8%، بمجموع 3.7 مليون عاطل، بينما بلغ عدد المشتغلين 24.8 مليون مواطن، منهم 5.9 مليون بالحكومة والباقي بالقطاع الخاص.
ليست مشكلتنا أن حضرتك لم تبحث جيداً عن السائق، أو أن النظام التعليمي لم يؤهل هذا العامل.
***
أسطورة «المصريين شعب كسول»
عدد ساعات العمل الأسبوعية للعاملين المصريين بالقطاع الاستثماري 50 ساعة، ثم بالقطاع الخاص 48.9 ساعة، ثم بالقطاع العام 47.1 ساعة. هذه معدلات عالية عالمياً إذا قارنا مثلاً بلندن 33.5 ساعة، نيويورك 35.5 ساعة، طوكيو 39.5.
معدل الإنتاج والإتقان له نقاشات أخرى، لكن من حيث عدد الساعات البحت بالتأكيد المصريون ليسوا كُسالى أبداً. وهذا منطقي، إذا كانت الغالبية بحاجة للعمل في أكثر من جهة، وإلا سيجوعون حرفياً.
المدرس الذي يترك مدرسته لأنه سيعمل طيلة اليوم بالدروس الخصوصية، والطبيب الذي يهرب من المستشفى الحكومي لأنه سيسهر للفجر في مستشفى خاص، والموظف الذي ينام بالمكتب لأنه يعمل سائقاً.. إلخ، يمكن وصفهم بأي شيء إلا الكسل.
***
أسطورة «الشعب خلاص بقى متعلم وواعي»
هل تعرف القراءة والكتابة؟
أنت محظوظ، لأن 23.7% من المصريين فوق 15 سنة يعانون الأمية، ربع شعبك لم يدخلوا المدارس أصلاً.
البعض يتصور أن هؤلاء من أجيال قديمة فقط والآن تغير الحال، لذلك يجب أن يعرف أن نسبة المقيدين بالتعليم الابتدائي للعام الدراسي 2013- 2014، من الفئة العمرية للتعليم بلغت 89.6% للذكور و91.3% للإناث، بمعنى أن حوالي 10%، ربما أكثر من ربع مليون طفل، لم يدخلوا المدارس أًصلاً.
أما من التحقوا بالمدارس فنسبة التسرب بعدها من التعليم بلغت 6.5% حسب تصريح لوزير التعليم فبراير 2014، أو عددياً بلغت 2 مليون طفل تركوا المدارس بسبب الفقر أو حاجة أسرهم لإرسالهم للعمل، حسب تصريح لرئيس الإدارة المركزية لمعالجة التسرب التعليمي.
هل وصلت للثانوية العامة؟
أنت محظوظ، لأنه من يبقى بالمدارس حتى سن الثانوية هم 77.7% حسب المسح السكاني الصحي لعام 2014، وهؤلاء بدورهم منهم 56% من طلاب الإعدادية يلتحقون مباشرة بالدبلومات الفنية. الغالبية لا يدخلون الثانوية العامة أًصلاً من المنبع.
عدد المقبولين بالجامعات للعام الدراسي 2013- 2014 هو 299 ألف طالب وطالبة فقط. أقلية استثنائية!
أثناء عملي طبيباً بإحدى قرى القليوبية، وهي القريبة من القاهرة وليست بالصعيد مثلاً، اكتشفت أن أهل القرية يعتبرون دخول الجامعة بحد ذاته حدثاً غير معهود، يعرفون بالاسم العائلات التي وصلت لهذا الطموح الغريب.
***
أسطورة «كل الناس بتروح تعليم خاص، لازم نلغي مجانية التعليم»
85.3% من الطلاب يلتحقون بالتعليم الحكومي، و7.3% بالتعليم الأزهري، أما التعليم الخاص كاملاً فلا يلتحق به إلا 7.4%فقط. أقل من أقلية.
متوسط الإنفاق السنوي للأسرة المصرية على التعليم هو 3699 جنيها، أي 308 جنيهات شهرياً لكل الأبناء، شاملاً كل شيء بما فيه الدروس الخصوصية، ومصاريف الانتقال، والأدوات المكتبية.
ليست مشكلتنا أنك وأصدقاءك تنفقون عشرات الآلاف على التعليم الخاص، ثم تتصور أنكم كل المصريين.
****
أسطورة «الناس في مصر بتتعالج ببلاش»
وأسطورة «البلد مليانة مستشفيات»
انخفض إجمالي عدد أسّرة المستشفيات الحكومية والخاصة في مصر من 149.9 ألف سرير عام 2004، إلى 108.3 ألف سرير عام 2014، وهي نفس الفترة التي زاد فيها عدد السكان من 70.5 مليون إلى حوالي 90 مليونا!
والعجز يصبح بنسب أكثر رعباً بأقسام حضانات الأطفال والرعاية المركزة، وهو القسم الذي لا يزيد عدد الأماكن المتاحة به بالقطاعين الحكومي والخاص على 4500- 7000 سرير.
الإنفاق الصحي هو ثالث أغلى بند بإنفاق المصريين بإجمالي 10% من الدخل، بعد الطعام 34.4%، والمسكن 17.5%.
لا نتحدث عن جودة الخدمة أو سعرها، بل عن مجرد وجود مكان أصلاً. حين تظهر أي صورة لمستشفى حكومي ينام به المرضى على الأرض، يكون التفسير السهل هو أن الأطباء مقصرون، وليس التفسير الحقيقي: ببساطة لا يوجد مكان.
أثناء عملي بمستشفى إمبابة العام، ومستشفى أسيوط الجامعي، وغيرهما، شاهدت مراراً المريض الذي يشترك مع آخر بنفس السرير، أو المريض المُنتظر على الأرض، وصاحبت مرضى في سيارات إسعاف نبحث لمدة ساعات حتى ماتوا قبل أن نجد لهم مكاناً. والله العظيم لا يوجد مكان!
****
أسطورة «كل المصريين اشتروا موبايلات غالية عشان يفتحوا الفيس بوك»
نسبة امتلاك المحمول مرتفعة فعلاً تبلغ 88.1% لكن هذه ليست رفاهيات بل لأنه بديل عن التليفون الأرضي، لكن في المقابل فإن نسبة امتلاك هاتف حديث «سمارت» ليسمح بالاتصال بالانترنت لا تزيد على 22.1% فقط، أما الآيباد أو التابليت فلا تتجاوز 3.7%.
***
قطاع كبير من الطبقتين الوسطى والعليا في مصر، ويشمل هذا قطاعات من مؤيدي ومعارضي النظام، لا يفهمون معنى أن مصر بلد كبير جداً، سكانه بالداخل تجاوزوا 91 مليون نسمة، بالإضافة إلى 9- 10 ملايين بالخارج.
هذه الأعداد تسمح بوجود عشرات العوالم والمجتمعات والشعوب المنفصلة تماماً، وتسمح بأن يكون لدينا أعداد ضخمة، مئات الآلاف والملايين من كل الفئات، من الأغنياء والفقراء، من المتعلمين والجهلة، من المهذبين والمنحطين، من الإسلاميين والعلمانيين والثورجية والدولجية واللي ملهومش فيها.
قد يكون صحيحاً أن الطبقة الوسطى المُتعلمة تقود السياسة عالمياً، وتفرز النُخب الحاكمة والمُعارضة أيضاً، لكن في العالم لا يدعي هؤلاء أنه لا يوجد غيرهم أصلاً في البلد، ولا يدفنون رؤوسهم من حقائق الأرقام ليلوموا شعوبهم المسحوقة، سواء اللوم «الدولجي» بأن الشعب كسول وسلبي، أو اللوم «الثورجي» بأنه شعب العبيد.
كما أن حقيقة كون الطبقة الصانعة للسياسة في مصر أقلية عددية بحتة يجب أن تكون لها انعكاساتها على أسلوب العمل والخطاب السياسي، والحكم والمعارضة.
أول قواعد خلق سِلم اجتماعي ووطني لجميع السكان هو أن يرى الملايين الملايين، يعرفوا بوجودهم أصلاً، ثم يتفهموا اختلافاتهم ودوافعهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
يجب أن نتعرف على أنفسنا، وأول خطوة أن نكف عن الثقة في أي عبارات تبدأ بأن «أصل الشعب ده ...كذا» أو «كل المصريين ..كذا»!