كاوا علي أحمد
منذ ظهور الجنس البشري على سطح الأرض بدأ طريقه في البحث عن تفسير لمنشأ وجوده وهذا الكون وفي سبيل هذا البحث أخذ يسأل نفسه بعض الأسئلة من قبيل: من الذي خلقني؟ وما هي صفاته؟! أهو من مكون ماء أم هواء أم تراب!؟
بقيت هذه الأسئلة جميعها دون حل والشيء الوحيد الذي أدركه الإنسان أنه حر في الاختيار بين الخير والشر ولهذا السبب بدأت الميثيولوجيا التي تتحدث عن نشأة الإله, ولكن هذه الميثيولوجيا بالرغم من سيطرتها على العقل البشري لفترة طويلة إلا أنها ظلت قاصرة وتعاني من التناقض والشيء الوحيد التي اتفقت عليه أغلب الأفكار الميثيولوجيا و أساطيرها بأن الإله قد انبثق من مياه أزلية أو هي المياه بحد ذاتها ففي الأسطورة السومرية يحاول الشعب السومري تحديد كركتر إله مسيطر على مجرى الكون بكل تفصيلها كما يلي:
تتحدث الأسطورة في البداية على أن الإله الأول و يسمى (نمو) هو المياه الأزلية الذي انبثق عنها كل شيء فقام الإله (نمو) بإنجاب (آن) إله السماء و(كي) إله الأرض ومن ثم قام (آن) و(كي) بإنجاب الإله الشاب (آنليل) الذي تمتع بقوة تفوق قوة أبائه فاستخدمت (آنليل) هذه القوة للتمرد على أبيه وأمه فاستطاع أن يبعد (آن) عن (كي) فنشأت السماء من (آن) والأرض من أمه (كي) وخص نفسه بالهواء الفاصل بين السماء والأرض وفي الأسطورة هناك حديث عن آلهة أخرى مثل (نانا) إله القمر (أتو) إله الشمس ويوجد هناك أساطير شعوب أخرى تشبه إلى حد ما الأسطورة السومرية ففي ملحمة (الاينوماايليش) يحاول البابليون وضع تفسير لمنشأ الخالق فتقول بأن المياه الأزلية الأولى كانت تتألف من ثلاث آلهة وهي:
أ-ابسو: وتمثل المياه العذبة الصافية.
ب- تعامة: وتمثل المياه المالحة.
ج- ممو: وتمثل الأمواج المتلاطمة
وتقول الملحمة أيضاً بأن هذه الكتلة المائية الأزلية كانت تملئ الكون الذي انبثق عنها فيما بعد بقية الآلهة والموجودات فكانت أولى الآلهة مولودات في (الاينوماايليش) البابلي هما (لخمو) و(لخامو) فقام (لخمو) و(لخامو) بإنجاب (إشار) و(كيشار) وتتابعت والولادات حتى ولد (آيا) الذي بلغ أقصى درجات القوة وشدة فاستخدمها في التغلب على أبائه بعد صراع طويل وأخيراً تمكن (آيا) من صنع تعويذة سحرية ألقاها (ابسو) الذي راح في سبات طويل فنزع (آيا) العمامة الملكية عن رأس (ابسو) معلناً عن بدأ سلطانه على الكون والموجودات ولكن سرعان ما ولد الإله (مردوخ) الذي فاق (آيا) قوة وجبروت فأخذ (مردوخ) يطمع إلى بلوغ درجات أعلى من درجات (آيا) فحدث صراع مرير بين (آيا) و(مردوخ) وانتهى الصراع بسيطرة (مردوخ) على العمامة فقام (مردوخ) بخلق السماء والنجوم وبقية المخلوقات.
لم تنتهي قصة الإله عند الشعب بل أنتج الشعب الكنعاني أيضاً أساطيراً عن الإله فيقول الكنعانيون بأن (إيل) يعتلي عرشهُ على السماء السابعة, ومن هنا بدأت فكرت السماوات, وهو أقوى الآلهة الكنعانية وقد انبثق عنه إله (بعل) وهو رب المطر والسحاب والخصب ويعتبر الإله (موت) نقيض الإله (بعل). فـ(موت) هو إله الجفاف والحرارة وهما في صراع دائم بل نهاية.
كذلك تقوم الأسطورة الكنعانية بذكر أسماء بعض الآلهة المؤنثة مثل (عشيرة) التي تعتبر الأم الكبرى ويكون (إيل) زوج (عشيرة) كما يوجد هناك الإله (عشتارات) التي تتعاون مع الإله (عناة) للقيام بوظائف (عشتار) إلهة الخصب البابلي. وبعد انتهاء هذه الحقبة من الفكر الميثيولوجي المتقارب ظهرت مجموعة من الأفكار المتطورة عن الأفكار السابقة وأخذت طابعاً مميزاً عن الإلهة السابقة وهذه الأفكار موزعة على النحو التالي:
الإله (الزاردشتي): يتميز الفكر الميثيولوجي (الزاردشتي) بابتكاره لمفهوم الوحدانية الثانوية فـ(اهورمازدا) هو الإله الوحيد خالق الروحان التوأمان (سبيتاماينو) و(أنجرماينو) وأعطائهما حرية الاختيار بين الخير و الشر فقام (سبيتاماينو) باختيار الخير و اختار (أنجرماينو) الشر وبعد هذا الخيار الأخلاقي للتوأمين كان لابد من تصادمها و دخولهما في صراع مفتوح فقام (سنيتاماينو) بخلق ستة كائنات نورانية تساعده في أعمال الخلق والتكوين وبالمقابل لم يتوقف (أنجرماينو ) مكتوف اليدين بل بادر هو أيضاً إلى خلق عدداً من الكائنات التي تدعى (الديفا) تساعده في أعماله الشريرة وبهذا الشكل كانت أول نشأة لفكرة الملائكة الشياطين.
الإله في المانوية: يستند الفكر المانوي على وجود إلهان أزليين مستقلين ومتعارضين فالأول للنور الأزلي والثاني للظلمة الأزلية ولم يدخل هذان العالمان المستقلان في الصراع إلاّ عندما قام الظلام بالدخول إلى نسيج النور فكان لابد من إله النور من تنقية نسيجه من الظلام المتطفل عليه وفي نهاية هذا الصراع, تقول الأفكار المانوية وهو انتصار النور على الظلام في نهاية الزمان.
الإله في التوراة: لقد نشأت الوحدانية في التوراة عندما قام أحد الآلهة المدعو (ياهو) بإبرام اتفاق بينه وبين الأب الأول وكان فحوى هذا الاتفاق أن يعبد أتباع إبراهيم الإله ياهو من دون بقية الآلهة مقابل تقديم ياهو الحماية والعون لهم وإعطائهم أرض فلسطين. ثم يعود ياهو ويجدد العقد مع موسى وشعبه لقاء أخراجه من مصر وتحريرهم من العبودية ويتضح من مضامين هذه العقود بأن ياهو لا يدعي الوحدانية وإنما يطلب بأن يكون المعبود الوحيد من دون بقية الآلهة. فهو آله غيور لا يتحمل وجود آلهة أخرى إلى جانبه على عكس بقية آلهة الشرق القديم التي تساند بعضها بعضاً ومن الجدير بالذكر بأنه يوجد تشابه كبير بين الإله في التوراة والديانة الأخناتونية التي أسسها الفرعون أخناتون والاختلاف الوحيد بين هاتين الديانتين هو أن الديانة التوراتية كانت ذاتية حين خصت ياهو آلهاً للشعب اليهودي فقط.
بينما الديانة الأخناتونية كانت موضوعية حيث خص ياهو كإله للعالم كله. كما أن ياهو لم يبق إلهاً خيراً كما في التوراة ولكنه تحول إلى شيطان في الديانة الغنوصية. الإله في المسيحية: لم يبشر يسوع بإله جديد بل كان يشير على الدوام إلى إله العهد القديم ومع هذا فقط أحدثت المسيحية انقلابا داخل العالم فقد أسست لعهد جديد بين الآلهة والإنسان وقام بإلغاء عهد ياهو مع بني إسرائيل فلإله يسوع هو الإلوهية السرمدية إلى ما وراء الزمن. وهو خالق العالم والمتحكم بالزمن وهو المتعالي ولكنه مرتبط بالإنسان والعالم برابط الحب وملتزم بخلاص العالم والإنسان منذ اللحظة التي دخل الشر فيها نسيج العالم. ولهذا الإله صفات عدة أهمها الحسن والطيب وهو منبع الخير وهو فوق كل شيء, إله أخلاقي لا يطلب من الإنسان سوى الإيمان والعمل الطيب وهما المرتكزان الرئيسيان للعقيدة المسيحية، وبما أن من أهم صفات الإله هي الحق والخير فهو غير مسؤول عن ظهور الشر وقد حل المعتقد المسيحي هذه المشكلة بابتكاره لمفهوم الثانوية الأخلاقية وهي أن الشيطان له سلطان على حياة الإنسان النفسية فقط.
الإله في الإسلام: وهو الميثيولوجيا الأحدث ويقوم على الإيمان بـ(الله) إلها وحداً وخالقاً أوحد دون التطرق إلى نشأته وتفاصيله الشخصية, ورغم ما يبدو من تشابه ظاهري بين الإله (الله) في المعتقد الإسلامي والآلهة في العقائد القديمة, فأن فحوى المعتقد الإسلامي يختلف عن تلك العقائد الجذرية المطلقة, وهي أن الشيطان ليس ندا لله ولا حتى لصورة مرحلية مؤقتة, ولذا فأن الشيطان لا يتمتع بالسلطة والقوة اللازمتان للخلق والتكوين والسبب في إيجاد الله للشيطان هو لغاية في نفس الله لم يتطرق إليها هذا الدين. أما الله فهو يملك كل شيء ولا يوجد في الكتاب (القرآن) سوى آية واحدة تصف حالة الله الأولية وهي الآية السابعة من صورة هود وقد ورد تفسيرها على النحو التالي, بأن الله قد خلق الكائنات والكون في ستة أيام, وهو القادر على خلقها بلمح البصر وكان عرشه فوق الماء البدائية فخلق هذا العالم من تلك المياه البدائية. نلاحظ استخدام فكرة الماء كما في المعتقدات القديمة والتي تقول بأن كل شيء خلق من مياه أزلية.
الإله الهندوسي: الهندوسية معتقد يقوم على عبادة ألاف الآلهة والمظاهر الممثلة للإله ولكن رغم تعدد الآلهة عند الهندوس فهم لم يبتعدُ كثيراً عن مفهوم الوحدانية, ففي كتابهم المقدس (منوسمرتي) هناك إشارة إلى معتقد يشبه إلى حد ماء الديانات التوحيدية حيث يقول الكتاب في مقدمته بأن (برماتما) هو رب الأرباب وله ثلاث أعوان يمثلون الثالوث الإلهي ولكل منهم وظيفة وهي:
1- براهما: يطلق عليه أسم (سانج هيانج) ويوصف بأنه الخالق ومانح الحياة وهو إله الخير وسيد الآلهة وينسبونه إلى الشمس كرمز لقوته.
2- فيشنو: ويسمونه بالحافظ وهو إله مليء بالرحمة والحب كثيراً ما يصورنه على هيئة إنسان جاء ليقدم الخير والعون للبشر ويحافظ على مجرى الكون, ويساعده في مهمته بعض الآلهة منهم (راما) و(كرشنا)
3- شيفا: ينسب إليه الفناء والدمار وهو مهلك العالم كما إنه الشيطان في العقيدة الهندوسية, ويعتبر نقيض ( براهما) فبراهما يخلق وشيفا يدمر.
مما سبق نستنتج بأن الهندوس يؤمنون بثالوث في إطار الوحدة هو براهما وفيشون وشيفا وبعد ذلك بعدد لا حصر له من الآلهة إلا أنهم يقرون لبراهما بأنه الأساس في الخلق.
الإله البوذي: إن الديانة البوذية في أساسها ليست مشابهة للديانات الأخرى فمؤسس البوذية (وتاسيدهارثا) الملقب ببوذا لم يتعرض لمبحث الإلوهية ولم يضع نظاماً لعبادات أو معابد ليتقيد به المؤمنون بالبوذية, فأطروحات بوذا ووصاياه في كتابه القدس (إنجيل بوذا) تركزت على الفلسفة الأخلاقية والسلوك الإنساني تجاه الآخرين.
نلاحظ أن الأمر مختلف بعد بوذا فالبوذيون اليوم لهم معابد وشعائر دينية وكذلك تعطي بوذا حالة تأله وأنه من أم لم تنجب سواه وأن ولادته ترافقت معها حالات خارقة ومعجزات, و قد قام البوذيون كذالك بإعطائه أوصافاً إلهية فهو الحقيقة والحكمة والموجد الخالد, ومن يريد الخلود فعليه أن يندمج ببوذا الخالد.
الإله السيخي: تعد الديانة السيخية من الديانات التوحيدية حيث أن (ناناك) مؤسس هذه العقيدة التزم إلى حد متزمت بالوحدانية وبأن الإله واحد هذا الإله الذي يحيط علمه بالملايين وليس لديه أعين وهو الخالق لملايين الأشكال والأجسام وهو ليس متجسما وهو الغالب على الشيطان فقد عمدة السيخية إلى تنزيه الإله عن سائر المخلوقات وتعريفه بأنه إله غير مشخص لتجنب أي حالة وثنية, هذا الأمر دفع (ناناك) إلى القول بأنه داعية لوحدة عقائد كل الناس تحت مظلة إله واحد مسيطر على الكون. وكذلك قامت بتفسير سبب خلق الإله للكون بأنه ضرورة لإظهار قوته التي ليس له مثيل.
الإله الشنتوي: إن المعتقد الشنتوي يتضمنها كتابان يعود زمن صياغتهما إلى النصف الأول من القرن الثامن الميلادي وهما (نيهونجي) و(كوجيكي) فالأول يتحدث عن تاريخ اليابان العريق أما الثاني يتضمن أساطير الشنتو (اليابانيين) حول الخلق ودور الشمس في ذلك حيث أن الشمس تعد المرتكز الأبرز والأهم في عقيدة الشنتو لذلك فان صنم الشمس هو أكبر هياكل العبادة عند الشنتو كما أنهم يقيمون إلى جانبه آلاف الأصنام لآلاف الآلهة والمعبودات كالبحار والجبال والأنهار…الخ. وهكذا فأن الشنتو لم يقرر بإله واحد خالق للكون وليس لعقيدة التوحيد مكان عند الشنتو بل هم مؤمنون بتعدد الآلهة.
وقد تضمن كتاب الـ(كوجيكي) عرضا كاملا لقصة الخلق عندهم حيث تقول الأسطورة إن أول الموجودات كانت مولد الآلهة في السماء وهم الإله المولى في مركز السماء ثم بعدها كان وجود إله الإنتاج الأعلى المهيب وأخيراً كان إله الولادات الإلهية. هذا الثالوث الإلهي هو الأول في سلسلة الآلهة, وكان بعدها إلهان من الأرض هذه المرة هما الإله الأمير الرضي والإله المقيم أبداً في السماء وبذلك يكتمل عندهم عقد الآلهة الخمسة السماويين الذين يتميزون عن الآلهة الأخرى ثم تتوالى عندهم أعداد أخرى من الآلهة التي كان لكل منهم دوره في الكون.
كما رأينا فقط جهد الإنسان دوما في كشف حقيقة العالم والحياة والبدايات وكانت وسيلته إلى ذلك مرتبطة بالمرحلة التاريخية لتطوره نفسياً وعقلياً وكان يصير لنفسه مثولوجيات ملائمة للفترة التي يعيش فيها فقط, ولا تصلح للفترات التي تعقبها والإنسان بطبيعته يرفض أن يبقى أسير فكرة جامدة لا تناسب واقعه الذي يعيش فيه. ففي البداية حاول الإنسان إخضاع الطبيعة لرغباته ومصالحه عن السحر والشعوذة, وبعد تاريخ طويل من الفشل للسيطرة على محيطه بعلم السحر الزائف, أتجه الإنسان إلى ابتكار الدين الذي وجداً فيه مهرباً من تساؤلات عدة عن أسباب الوجود, فأعتَقدَ المتدين بأنه أذا كان العالم يسيطر على الإنسان حتى الآن فلا بد من وجود قوى خارقة غيبية تقف وراء المظاهر الكونية. وبذلك صيغة نظريات عدة متناقضة حول الإله- كما رأينا- الذي أدى إلى دخول الحضارات الدينية في صراع طويل فكل حضارة تود أثبات فكرتها على حساب حضارة أخرى, وهكذا بقي الفكر الديني متقلبا من حضارة إلى أخرى تدور حول نقطة وجود قوى غيبية خارقة, والدين في بنيته القائمة اليوم هو حصيلة نشاط مراحل تاريخية ابتكره الإنسان بغية تحقيق الغاية من وجوده الذي لم يدركها وقتها, وبعد تملل الإنسان من هذه المعتقدات التجأ إلى العلم لأنه وجد فيه صيرورة سليمة للتاريخ ووسيلة للسيطرة على قوى الطبيعة.
المراجع:
1- فراس سواح: موسوعة تاريخ الأديان.
2- فراس سواح: الرحمن والشيطان.
3- فراس سواح: مغامرة العقل الأولى.
4- أسعد سحمراني: قاموس الأديان.
5- الديانة الزردشتية مزديسنا: نوري أسماعيل.