رجعت لمدينتي بورسعيد من يومين ومسافر النهاردة بسبب أمتحانات طارئة، أنا رجعت بسبب أبويا أمبابي، تعبان بسبب القلب، عضلة قلبه ضعيفة والدم مش واصل للأطراف ودا مسبب له ورم ف القدمين، اخر زيارة للدكتور قاله أن دا بسبب السجاير، بس أبويا مصمم يشرب سجاير، ولما قعدت انصحه طبطب عليا وقالي انا مش هبطل سجاير متتعبش نفسك يا محمد.
كبر إمبابي وعجز، اخر السنة دي هيتم السبعين سنة، أبويا بقيت أدخل عليه ألاقيه متكلفت بالبطانية وقاعد علي كرسيه وبيتنفس بصعوبة، بيشرب سجاير ع الكرسي، وبيشرب الشاي ع الكرسي، بيتفرج ع التلفزيون ع الكرسي، وحتي النوم بينام وهو قاعد علشان مبيقدرش ياخد نفسه لما بيفرد ضهره، أفتكر زمان ابوه اللي هو جدي (أبو علوان) في أخر حياته كان بينام وهو قاعد برضه ومتكلفت ببطانية.
ابويا أتولد سنة ٤٧ وجدتي سمته إمبابي علي اسم الشيخ (إسماعيل الامبابي) علشان مكانش بيعيش لها ولاد، ابويا وهو صغير كان شقي جداً لدرجة أن جدي غلب معاه، ولما أبويا ولع في صندوق البريد اللي بعت فيه مدير المدرسة جواب فصله، فحرقه أبويا قبل ما الجواب يوصل البيت، ولما جدي عرف قالهم ماليش دعوة بيه أحبسوه.
امبابي وهو عنده ١٧سنة زور اوراق وشهادات وسافر يشتغل علي البحر، نزل في مواني بريطانيا ونام في الجناين والشوارع وع الأرصفة لغاية لما لقى شغل في ميناء ليفربول، أشتغل هناك شوية وأتجوز من واحدة أنجليزية وخلف منها ولد وسماه (محمد) وبعدين سابهم وسافر علي سفينة شحن في رحلة تاخدلها كام شهر، لكن مرجعش لهم ابداً تاني، خطفته جنيات البحر، بعدها بكام سنة بقي (شيف انچينيرينج) علي سفن نقل البضايع والبترول.
بعد سنين في البحر قرر ينزل علي الارض تاني، المرة دي كانت في أمريكا، أشتغل في ميناء من موانىء نيويورك، وقعد في منطقة للسود أسمها (بروكلين ٥٦). المنطقة دي كان بيحكي فيها حكايات ممكن تتعمل فيلم، ازاي ان السود كانوا بيشتموه لما يقولهم أنه من أفريقيا، وجيرانه اللي كانوا بيشتغلوا في بيع الهيروين والمخدرات، وجارته المومس اللي كانت عايزاه يدفع فلوس وينام معاها وهو يعتذرلها بكلمة (آيام موسليم)، أو الواد الصغير اللي حط المسدس في دماغه وقاله أديني سيجارة لأقتلك، فأبويا لما حط ايده في جيبه يطلعله السجاير الواد فكره هيطلع سلاح فسحب آمان المسدس فأبويا أول ما سمع الصوت قعد يعيط ويقوله متقتلنيش واتبول علي نفسه، ومع صوت دورية للشرطة الواد سابه وجري وأبويا أغمى عليه.
في نيويورك أبويا سفر جزء كبير من قرايبه، منهم أبن خاله، اللي راح أمريكا بعد النكسة بكام سنة، أول حاجة عملها لما نزل من المركب أنه قطع باسبوره المصري وقرر أنه مش هيرجع تاني، الشخص دا كان في الجيش أيام النكسة، وبعد إحتلال سيناء رجع من سيناء لبورسعيد مشي، حافي بهدوم مقطعة وقعد شهر ونص في اوضته مبيكلمش حد، لغاية لما افتكروا أنه فقد القدرة ع النطق.
أبويا مستحملش الأرض كتير، وقرر يرجع للبحر تاني ويسيب أمريكا، فضل في البحر شوية وبعدين عاش في لبنان، كان أيام الحرب الأهلية، لغاية لما ظابط سوري من قوات الردع السورية في لبنان قبض عليه مع شوية لبنانيين وقرر بلا سبب أنهم يتعدموا، أخدوهم في عربية علشان يقتلوهم، ولجل الحظ ظابط سوري تاني مشاهم قبل ما يوصلوا لفرقة الإعدام، بعديها قرر أنه يسافر وميرجعش تاني لمنطقة المجانين دي، وأنه يفضل في البحر.
رجع أبويا بعد ما عدي سن الأربعين، قرر أنه يتجوز، ويخلفني، بس برضه كانت مشكلتي معاه الأبدية أنه مكانش معانا ولا يوم، كان دايماً مع البحر، ولما يقعد يحكي عن حكاياته يتندم ويتحسر أنه ساب البحر، كان نفسه يفضل لغاية لما يموت وهو بحار، علي السفن والمراكب، موجة تاخده وموجة توديه.
لما بقعد في بيتنا بطلع ألبومات صوره والبوستال كارد اللي كان بيبعتها، ورسايله العائلية والغرامية، واقعد أتفرج علي صوره وأستعجب قد أيه أنا فيا شبه منه في بعض ملامحه، غير أنه بس أسمراني بزيادة، صوره وهو ع الموتوسيكلات بتاعته، وهو في عربيته، وهو في مكتبه، وهو سكران، وهو مع عشيقاته، وهو مع صحابه وأهله وصوره معايا وانا صغير، وهو كان كله شباب وشعره طويل وعلي ايديه الشمال وشم كبير لمركب شراعية وعلي الأيد التانية قلب كبير مزخرف فيه أسمه وأسم مراته الانجليزية، ساعتها بس بحس بالضعف والرهبة قدام قسوة الزمن والأيام.
مش فاضل لي حاجة غير اني في أخر اليوم أسحب نفسي جمبه زي منا عامل دلوقت، وأنام علي صوت أنفاسه اللي بياخدها بصعوبة، وأفتكر حكاياته الجميلة عن البحر اللي أتربيت عليها، ساعتها بفتكر بيت شعر لبيير باولو بازوليني بيقول فيه:
لقد أمضيتُ طفولتي عبداً
لهذا الحبّ الهائل، العالي، الذي لا شفاء منه
تلك كانت طريقتي الوحيدة الى الحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق