عندما تركت مصر في 1991 للقيام ببعض الأبحاث العلمية الطبية في الدنمارك، كنت قد تزوجت حديثا، ولم يكن لي أطفال بعد، وكنت أعتقد أني سأغيب عن مصر لمدة سنتين فقط، غير أنني بعد حوالي تسع سنوات من الغربه، أدركت أن الدنمارك قد أصبحت بالفعل بيتي الثاني، فآثرت الاستقرار هناك.
عندما كان عمر ابنتي الأولى حوالي 10 سنوات، سألتني: ما معنى “مهاجرو الجيل الثاني”؟ كنا لحظتها نشاهد التلفزيون، وبدون تركيز في الدلالة السلبية السائدة في الإعلام لهذا المصطلح، أجبتها: “الدانماركيون غير الأصليين، مثلك أنت مثلا، أنتِ مهاجرة من الجيل الثاني”.. أجابتني في فزع: “غير صحيح.. لا.. هذا لا ينطبق عليّ!”
فجأة أدركت الفارق بين صورة ابنتي عن نفسها وبين التصنيف الذي صكّه المجتمع الدنماركي لها، وأيقنت أن الوقت قد حان لأتكلم مع ابنتي في الموضوع.. موضوع الهوية، وليس موضوع التزاوج.
استلهمت حديثي مع ابنتي من الشاعر الفلسطيني محمود درويش، حينما قال: “الهويّة هي ما نورّث لا ما نرث.. ما نخترع لا ما نتذكر”.
أحب هذه الرؤية لأنني في تلك الأثناء كنت قد إكتشفت ما تمثله تربية الأطفال وسط الثقافة الإسكندينافيّه من تحدٍ لكثير من العادات والطقوس والتقاليد التي نمارسها أنا وزوجتي المصريّه بشكل تلقائي وبدون تفكير.
ما الذي نحب أن نورّثه لابنتينا، وما الذي لا نرجح التمسك به.. قضيه تحولت إلى سؤال حاد ووجودي في آن واحد.
أظن أن هذه الاختيارات هي ما تبني هويّة الإنسان.. الهويّة من هذا المنطلق موقف أخلاقي أيضاً، لأنها تضع في الاعتبار “الآخرين” في حياتنا.
لهذا أعتقد أن الهويّة لا تتحدد مسبقا بالجنسيه أو الدين أو الثقافة، لكننا نكوّنها من خلال الطريقة التي نختار بها ممارسة أيٍ من الثلاث.. مثل محمود درويش، أنا أؤمن أن هويتنا هي ما نصنع اليوم من أجل المستقبل.. الهوية هي تعريف للحاضر، وليس للماضي.
هذا التناول مختلف عن التناول السائد حاليا.. هذا تناول يتحدى الاعتقاد بأن الهويّة تقبع في مكان ما في الماضي.. محميّة، غير متأثرة بأي مواقف أخلاقية آنيّة، وأن الهويّة تكمن في جذور الإنسان، مجمدة، محفوظة، كاملة، غير ملوثة بأي تأثير خارجي، وأن كل ما على الإنسان هو أن يحفر بعمقٍ كافٍ في الماضي ليستخرجها ويعيد استخدامها.
الذين يفكرون بهذه الطريقة يرون هويّتهم الوطنية تحت نفس الضوء.
بعد سقوط مبارك كانت هناك محاولة لكتابة الدستور المصري، وفي خلال هذه العملية ثار نقاش حول “الهويّة المصرية”.. هل هي أفريقيّة؟ عربيّة؟ بحر أوسطيّه؟ أو هل لمصر هويّه فرعونيّه خاصة بها؟ هل هي دوله مسلمة بها أقليّه قبطيّه؟ أم يمكن أن تكون دولة تعدديّه علمانيّة؟ وفي هذه الحوارات كان المتحاورون يرجعون دائماً إلى نقطهٍ ما في الماضي.. فرعونيّة كانت أم إسلاميّة، ليجعلوها نقطة الارتكاز والمحور وما يخالفها يتم نفيه وإقصاؤه.
نفس السؤال مطروح اليوم في الدنمارك: ما هي الهويّة الدنماركية؟ ونفس التحيزات والإطارات الذهنيّة تتسيد المناقشة.
الماضي يتم إستدعاؤه ليحدد أطُر النقاش، وليس هناك كلام عن الحاضر أو المستقبل.
أدخلت هذه الاعتبارات في حواراتنا العائلية مع إبنتينا عن الميراث الثقافي المصري وكيف يناسب حياتهما كمواطنتين مولودتين في الدنمارك، وكلمتهما أيضا عن الإسلام لأنني مؤمن أن ديننا بإمكانه المساعدة في الرد على أسئلة الهويّة بالنسبة للمسلمين الشباب في الغرب.
السؤال هو أي إسلام؟ وأين نجده؟
لم ارسل إبنتاي إلي مدرسة قرآن، لأن الخطاب الإسلامي في هذه المدارس يسيطر عليه منهج وهابي سلفي أرفضه، ولأنني أعتقد أن هذه الأيديولوجية الوهابيّة السلفيّة التي تصدرها السعودية ستفاقم أي أزمة هويّة بدلا من أن تكون جزأً من الإجابه.
هذا الشكل من الإسلام السني يفسر النصوص الدينية تفسيرات حرفية بدون أي إطار تاريخي، وكأن معاني الآيات بيّنة من ظاهر النص فقط وثابتة لا يمكن فهمها أو تأويلها بطرق مختلفه.. يتم تلبيس هذه الآيات القرآنية تفسيرات صماء ثابتة لفقهاء فارقوا عالمنا من مئات السنين.. هذه التفسيرات كلها من صنع بشر، لكن يتم تقديمها إلى الشباب من المسلمين، وكأنها “القصد الإلهي” الحقيقي والثابت والوحيد لكي تصبح معصومة من النقاش.
ليس معنى هذا أن الوهابية السعودية هي الرواية الضيقة الوحيدة للإسلام، لكنها بالتأكيد الأكثر شيوعاً في الدانمارك، كما أن خبرتي السابقه والحاليه من مصر تؤكد شيوع نفس المنهج بدرجات مختلفه من التشدد وسط الناس وفي الفضائيات، كذا داخل وخارج المؤسسات الدينية للدولة.
هذه الرواية السامة للإسلام يتم تقديمها إلى شباب المسلمين في بلادنا الإسلامية وفي أوروبا، وكأنها الطريقة الوحيدة ليكون الإنسان مسلماً حقيقياً، وبالتالي فلو أن هذه التفسيرات تسمح بالعقوبات الجسدية أو زواج الأطفال، فإن عليك أن تقبل بهذا كفعل أخلاقي مقبول، حتى وإن كانت تتعارض مع الفطرة أو العرف أو العلم أو مجموعة القيم الخاصة بك., يدرّس الأئمة الوهابيون للشباب أن قبول هذه الفظائع بدون انتقاد يمثل قمة الإيمان بالله والتسليم بمشيئته.
تحت وطأة ضغط الأنداد وإرهاب سلطة الأئمة، يمحو هذا التلقين كل فكر نقدي أو فطرة داخلية طبيعية.. عندما يبحث الشباب عن هويّة في هذه الأيديولوجية الوهابيّه ينتهي بهم الأمر في نزاع مع قيم المجتمع المعاصر الذي يعيشون فيه، وهذا وضع يهمشهم ويعزلهم ويقصيهم، وفي أحيان كثيرة يؤدي بهم إلى الإرهاب والتطرف.
المشكلة هنا أن هذا الخطاب الوهابي يعاد إنتاجه بالبترودولار السعودي الذي لا ينضب في شكل مطبوعات منخفضة السعر وعلى الإنترنت وفي مئات التفاصيل التي تملأ الحياة اليوميّة للأفراد حتى إنك لتجد الأئمة في الجوامع المحلية في بلد مثل الدانمارك يروجون لهذه الأفكار ويدعمونها، كذلك للأسف يحظى هذا الصنف من الإسلام دونا عن غيره باعتراف ودعم من الحكومات الغربية! البعض يغض الطرف عما يمثله، والبعض الآخر يستشعرون خطأ ما، لكن يتم إقناعهم بقبول الوهابيّة السعوديّة بصفتها الإسلام الحقيقي الأوحد، وذلك حتى يتم ضمان حصة البترول التي يحتاجونها، ومن سخرية القدر أن بعض هذه الدول بدأت في التعاون مع السعودية في محاربة داعش ومن أجل إقتلاع الإرهاب والتطرف!
لكن لايزال هناك أمل، قد يستحوذ الوهابيون على المشهد الرئيسي، لكن في هذه الأثناء هناك حركة من المسلمين التقدميين، حركة صغيرة، غير أن جذورها تنمو بثبات بالأخص بين مسلمي الشتات في الغرب.. يكوّنون منظمات مثل “بريطانيون مسلمون من أجل الديمقراطية العلمانيّة”، و”مسلمون من أجل قيم تقدميّة” في الولايات المتحده الأمريكيه، و”شبكة المسلمين الليبراليين” في النرويج، لمواجهه الرواية الوهابيّة الأصوليّة المتطرفة.
الفارق الرئيسي يكمن في قراءة الإسلاميين التقدميين للقرآن من زاويه أخلاقيّة ذات أُطُر تاريخيّة. يستخدمون فقه إسلامي متين مستلهمين ريادة مفكرين إسلاميين أغلبهم معاصرين مثل نصر حامد أبو زيد وعبد الله النعيم وخالد أبو الفضل وأمينة ودود وغيرهم لتقديم تفسيرات متناغمة مع أسئله وتحديات العصر الحديث.
رد المسلم التقدمي علي سؤال الهويّة سنجده في كتاب العالم خالد أبو الفضل (UCLA) “مكان التسامح في الإسلام”، حيث يقول: “القرآن يأمر الإنسان بفعل الخير، لكنه لا يحدد دائماً ما هو الخير، وهي ليست صدفة أن اللفظ القرآني المستخدم للتعبير عن “الخير” هو “المعروف” أي ما هو معروف إنه خير.. الخير في الخطاب القرآني بالتالي حقيقة معاشة، ثمرة الخبرة الإنسانية ومفهوم نبنيه لما هو طبيعي.
المسلمون التقدميون يدفعون بأن فهم القرآن من منظور أخلاقي إجتهاد يدعونا اليه القرآن نفسه حين يقول: “الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب” (الزّمر)، حيث كلمة “القول” في الآية السابقه فهمها كثير من العلماء القدماء والمعاصرون على أنها إشاره إلى القرآن أو إلى أي نقاش أو جدل فكري بين المسلم وعالمه.. المعني الذي يشير إليه القرآن إذاً هو: سواء كان المسلم يتدبر نص قرآني ديني أو قضيه دنيوية كحقوق الإنسان مثلاً، فعليه أن يحكّم عقله وحسّه الأخلاقي لكي يمكنه أن يختار وأن يتبع من التفسير “أحسنه”، ومن المواقف الإنسانيه أرقاها ومن الطرق أخيرها.
من هذا المنطلق، نحن، المسلمون التقدميون ندعم حقوق الإنسان للجميع رجالا ونساء بغض النظر عن الدين والعرق، وندعم الحقوق المدنية للمثليين وأصحاب التوجه الجنسي المغاير ونرفض فكرة أن أحكام الشريعة يمكن أن تفرضها سلطه حاكمه أو أنها غير قابلة للتعديل.. نساند العلمانية الإجرائية بمعنى فصل الدين عن الدولة ونعارض الإعدام.
وبسبب أن الهويّة هي عبارة عن قيم ومواقف أخلاقية، أعتقد أن المنهج الذي يقترحه المسلمون التقدميون بإمكانه أن يكون مصدر إلهام للشباب المسلم، وهم يستكتشفون أسئلة الهويّة، حيث إنه منهج يبحث عن روابط بين الميراث الثقافي الديني وبين الحياة المعاصرة ويساعد على بناء هويّة متعددة الثقافات.. هويّة إنفتاح وتسامح.
ابنتي الكبرى سنها الآن 23 عاما.. تدرس اللغة السانسكريتيه في جامعة كوبنهاجن، لتضيف لنفسها لغة رابعة وزاوية جديدة تستكشف بها نفسها والعالم، وفي هذه الأثناء مازال الإعلام الدنماركي يخترع مصطلحات جديدة ليصف بها أمثال ابنتي وأختها الصغرى من أبناء المهاجرين، لكن المهم، أنه أياً كان المصطلح الذي يطلقونه، فإننا لم نعد نحتاج لكلام في موضوع الهوي