سلوى محسن- تلت مصر
عرفت معنى الهزيمة وانا طفلة، لما مرضت أمى اللى كانت تعالج فى البداية بوصفات جدتى، إلى أن عرف الطبيب الطريق إلى فراش مرضها. كانت الطرق مغلقة، والمرور استثنائى. شفت بعض المظاهرات – وكنا مضطرون للخوض فيها- وكان "البيريه" العسكرى لخالى الضابط بالقوات المسلحة هو مفتاح الحواجز ونقاط التفتيش. يخرج البيريه من شباك العربية فنمر دون تفتيش - أتعجب الآن من تلك الثقة التى كانت لرجال القوات المسلحة. كنا كلنا غرقانين فى دموع، وبندعى طول الطريق لتنجو أمى من مرض تأخر علاجه وأصبح شفاءه نادراً فى حينه. مكنتش أعرف من الحرب غير مرض أمى وساتر أسمنتى قدام باب بيتنا وشبابيك متلونة بالأزرق، وصفارة إنذار، وست شباب من بلدنا مرجعوش واعتبروهم شهداء، منهم عبد العزيز الراعى الفقير؛ الناياتى العايق كما عُرفَ فى قريتنا والذى كنت أعشقه، وتتركنى أمى فى صحبته وأخته من الصباح وحتى المساء أنا ومعزتى الصغيرة. عشت الهزيمة يتماً حتى اليوم، وفضلت دموع ماليه عينيا وانا بسمع كلمة هنحارب. رجعت من زيارة أمى وسمعت فى الشوارع " هنحارب" وغنيت هنحارب مع الولاد والبنات فى شارعنا، وشفت مظاهرات الشوارع اللى تزلزل الروح " كانت تخرج من شارعنا وكل الشوارع الجانبية يتجمعون فى الميدان يصطفون ويهدرون حتى يختفون عن عينى. سمعت " أحا أحا لا تتنحى" وكنت أبكى واجرى على بابا زى فوزية فى "سُك على بناتك"
- يابابا بيقولوا كلام عيب وبيقولوا عايزين يحاربوا؟؟ نظر إلى نظرة لن أنساها أبدا - وأنا التى لم ترى أبوها دامعاً- مزيج من الانكسار والحزن والرجاء وابتسامة تتخفى ودمع حيي، قال:
- خليهم يقولوا ماهو لازم نشتمه ونزعق له ونصرخ فيه ونخاف، وكمان لازم نحارب، دى سينا دى تلت مصر.
كان ابويا وقتها مدرساً للتاريخ والجغرافية لمرحلة الثانوى- جاب الخريطة وورانى سينا وحط صوابعى على كل جزء فيها وحفظنى على إيدى – وكانت أول وآخر مرة بابا يشرح لى تاريخ وجغرافية وكان الدرس الوحيد اللى سمعته منه سينا بصعودها وانكسارها- بابا لا يشرح لأبنائه أبداً وإن حدث فحدث ولا حرج !!.
واختزنت ذاكرتى وصفات جدتى لمرض لا يجدى معه سوى الطب، وجسد أمى المريض، وبيريه الجيش فى يد صلبة -رغم الانكسار- ووجه دامع، ونافذة زرقاء، وصافرة إنذار، وعبد العزيز الناياتى العايق اللى مرحتش معاه للمرعى تانى، ومعزتى ، وهنحارب، وأحا أحا لا تتنحى، وخريطة سينا مرسومة على كفى وأصابعى وتلت مصر الغالى جدا اللى رجع ومرجعش وبيرجع وهيرجع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق