مقطع من رواية رضوى عاشور الجديدة «الطنطورية» | ||||||||||||||
طـرح البحـر خرج من البحر. أي والله، خرج من البحر كأنه منه وطرحته الأمواج. لم تحمله كالسمك أفقيا، انشقت عنه. تابعته وهو يمشى بساقين مشدودتين باتجاه الشاطئ، ينتزع قدميه من الرمل ويعيد غرسهما فيه، ويقترب. كان عاريا لا يستره سوى سروال أبيض مشدود على خصره بحبل، تلتمع حبات الماء على وجهه وكتفيه. شعر رأسه وصدره وذراعيه استقر لامعا في البلل. كنت أقف أمامه على الشاطئ، لكنني حين أسترجع المشهد، أرى نفسي في البيدر بين أعواد القمح، أتلصص عليه وهو غافل عني. أعرف أن البيادر كانت في الجهة الشرقية، تفصل بينها وبين البحر بيوت البلد والسكة الحديد، وأنني كنت أقف على الشاطئ، تراودني الرغبة في الهرب، ولا أهرب. أنا التي بادرته بالكلام، سألته فأجاب: اسمي يحيى، من عين غزال. وماذا جاء بك عندنا؟ البحر! تضرج وجهه بحمرة حياء انتقل كالعدوى إلي، أو استبد بي الوجل فاستبد به من بعدي. ألقيت عليه تحية متلعثمة وابتعدت. ولما ابتعدت، أدرت رأسي فلم أره، فتأكدت من أنه لا يراني. ركضت إلى رفيقاتي فوجدتهن على حالهن، كأن شيئا لم يحدث، يثرثرن ويلعبن في الرمل. حكيت. كان كلامي على ما يبدو سريعا ملهوجا. استوقفنني وطلبن أن أعيد الكلام. فعلت. صرن يتغامزن ويضحكن. قلت: ما الذي يضحك؟ نهضت ونفضت الرمل عن ثوبي وسرت باتجاه البيت. لم أدخل البيت. تجاوزته إلى شجيرات الصبار الواقعة في نهاية باحته الخلفية. رحت أقطف من ثمرها حتى ملأت القفة التي كنا نتركها بجوارها. حملتها إلى البيت، وأتيت بسكين وصحن كبير وقرفصت بجوار القفة. أمسك بالثمرة بين إبهام يدي اليسرى والسبابة متحاشية دوائر الشوك. وبضربة واحدة سريعة أقطع بالسكين طرفها الأعلى ثم الأسفل، ثم أشق القشرة شقا طوليا، وبطرف السكين، أزيحها قليلا، ثم أضع السكين جانبا وأخلص الثمرة بأصابعي من غطائها الشوكي، أنقلها إلى الصحن. بيتنا كالعديد من بيوت البلد، متداخل في البحر. أذهب إليه بلا كلفة أو انتباه، خطوتان في مائه والغرض أن أغمر قدمي فتفاجئني موجة تبلل الثوب كله. أقفز متراجعة إلى الرمل، يحولني في غمضة عين إلى مخلوق رملي، ثم قفزة واحدة وأغطس كاملة في الماء. أسبح وألعب، وحدي أو مع الأولاد والبنات. نتشارك فى الحفر ثم «أنا أنا أنا»... أنزل في الحفرة العميقة فيهيلون علي الرمل إلى أن يختفي جسدي، يبقى الرأس وحده يطل مستثارا من مدفنه الرملى الساخن. مقبرة مجللة بالضحك وشيطنة الصغار. أصيح بأعلى صوتي كمن أصابها مس: «صا..يدة! صا..يدة! » أدب على الأرض أقفز وأعود أدب وبيدي الآنية النحاسية التي كنت ثبتّها بين الصخور مصيدة للسمك، فوقع المسكين فيها.. وفي بحرنا بئر سكر. بئر من الماء العذب مستقرة بين أمواج المالح. أي والله بئر سكر، ولصقها تماما مجلس العرسان. نقيم أفراحنا على الشاطئ، يظهر الشاب بعد أن يحممه رفاقه ويساعدوه على ارتداء ملابسه الجديدة. يغنون له: طلع الزين من الحمام... الله واسم الله عليه. طلع الزين من الحمام... الله واسم الله عليه. يظهر على حصان مجلو كأنه العريس. تسكننا الجنادب، نتقافز مثلها، من زفة العريس إلى صمدة العروس إلى العمات والخالات المنهمكات في إعداد الطعام، يغنين: قولوا لأمه تفرح وتتهنا ترش الوسايد بالعطر والحنا والفرح إلنا والعرسان تتهنا والدار داري والبيوت بيوتي واحنا خطبنا يا عدوي موتي نندس بين شباب انتحوا جانبا من الشاطئ وراحوا يدبكون. نتوقف قرب رجل كبير تملكته نشوة الغناء فراح قبل أن يلتئم الجمع، يغني هكذا لحاله، مأخوذا بصوته وما يردده من أبيات. يفترش العرس شاطئ البحر. يتوسع. تنوره الزغاريد والأهازيج وحلقات الدبكة ورائحة الخراف المشوية والمشاعل. تنفلت ردات «العتابا» و«الأوف» من صدور الرجال، أي والله، تنفلت انفلاتا وتحلق، كأنها تصل إلى رب العرش فوق، أو تطير متجاوزة الجيران في القرى القريبة لتؤنس سكان الساحل كله من رأس الناقورة إلى رفح. ثم يقبل الفرسان يتبارون فى الركض والرقص. كل على ظهر أصيلته، ترجم رمل الشاطئ رجما بحوافرها فينخطف جسمها وقوائمها مقبلة وهى تولي، الشاب على متنها يميل خفيفا للأمام كأنه مثلها يطير. يسرق المشهد قلوبنا. ننسى البحر. وربما يكون البحر مثلنا مأخوذا بالفرجة فينسى نفسه ويستكين، أو تدريجا، يغلبه النعاس بعد طول سهر. نحن أيضا نسلم مثله لخدر لطيف. لا ننتبه إلا حين تسحبنا أمهاتنا فنتبعهن كالسائرين نياما. نسكن في فراشنا، لا نعرف إن كنا في البيت أم على الشاطئ، إن كان ما نراه أو يتردد في أسماعنا واقع العرس أم حلمه فى المنام. البحر مقيم في البلد، أما القطار فله أوقاته، يظهر ثم يختفي كعامورة الليل. نضطرب من هدير محركاته حين يقترب. اهتزاز الأرض عند مروره، احتكاك العجل بالسكة الحديد، صفاراته المتقطعة، صرير المكابح لأنه يتوقف. يوميا يمر القطار بالبلد وله محطة شرقيه فى زمارين. أحيانا يحمل أهالي مثلنا، وغالبا ما يركبه عسكر الإنكليز أو مستوطنون لهم غرض يقضونه في حيفا أو يافا، فيذهبون بالقطار ثم يعودون. يركب شقيقاي باص أبي عصام مرة كل أسبوع، يذهبان إلى حيفا أول الأسبوع ويعودان عند نهايته، يقضيان معنا ليلة الخميس على الجمعة والجمعة على السبت. بعد أقل من شهر من لقائي الشاب الذي انشقت عنه الأمواج، زارنا شيخ عين غزال. شرب القهوة مع أبي وطلب يدي للزواج من ابن أخيه. قالت أمي: اسمه يحيى. تمتمت: أعرف أن اسمه يحيى. لم تنتبه أمي. واصلت ما تنقله لي من كلام: أبوك يريد أن يعرف رأيك قبل أن يعطيه الجواب. قال لهم نعم النسب. وإن شاء الله يَصِر خيرا. أبوك موافق، لكنه يقول إن قبلت رقية نكتفِ بقراءة الفاتحة، ولا نعقد القران إلا بعد سنة تكون أتمت الرابعة عشرة. اعترضت وقلت لماذا نزوجها بشاب من عين غزال؟ فقال أبوك أهل عين غزال أخوالنا، تزوجوا من بناتنا من قبل. ثم إن الولد فاهم ومتعلم ويدرس في مصر. هو نطق بمصر وأنا صحت: وتغرب بنتك يا أبا الصادق؟ قال لن أغربها. الولد سيتم دراسته قبل أن يدخل بها. اعترضت عليه مرة أخرى: ما دام الشاب يتعلم في الجامعة فلن يشتغل لا بالصيد ولا بالفلاحة، ولن يقيم في بلدنا أو في عين غزال. سيتوظف في حيفا أو اللد، وقد يبعد أكثر فتأخذه الوظيفة إلى القدس، وبصراحة لا أريد أن أغرّب بنتي. كفاني أن الولدين متغربان في حيفا ولا أراهما إلا يوما ونصف اليوم كل أسبوع. وإن كانت ستتغرب تأخذ أمين، ابن العم يطيح عن ظهر الفرس، أمين أولى، وبيروت أقرب من القاهرة. قال لن يبقى في القاهرة، سيعود إلى عين غزال، وإن توظف في حيفا تركبي القطار فتصلي ابنتك في أقل من نصف ساعة. قلت ولو قطع اليهود علينا الطريق؟ احمر وجهه واكفهر وقال: فال الله ولا فالك. أنهى الكلام: نحن نشتري الرجل لا موقع عمله. الولد عنده 19 سنة ومتعلم. والنسب يشرف ويرفع الراس، عمه شيخ عين غزال، رجل شهم وسمعته مثل الذهب. اسألي البنت، إن وافقت، فعلى بركة الله. ما رأيك؟ كانت أمي تتوجه لي بالسؤال. لم أقل لها: حتى إن كان يعمل في الهند أو السند.. قلت: أوافق. جاءت عبارتي واضحة وبصوت عال. نهرتني: سبحان الله، طق شرش الحيا! قولي اللي تشوفوه، قولي الرأي لأبوي! في زيارة تالية حضر شيخ عين غزال وإخوته وعدد من رجال قريتهم. استقبلهم أبي وعمي وشقيقاي وكبار البلد. قرأوا الفاتحة. تمت الطلبة ويحيى في مصر يواصل دراسته الجامعية، وكانت أمي وخالتي منهمكتين في إعداد الوليمة وقد ذبح والدي خروفين للمناسبة. أمي تروح وتجيء وتكرر في أذني همسا: ستسوء سمعتك بين النسوة. سيقولون: عروس كسلانة لا تصلح لشيء. همّي وفرجيهم شطارتك. تسللت من البيت واتجهت إلى البحر، تربعت على الشاطئ ورحت أحدق فى الولد وهو يقترب مبللا ومذهبا. أسترجع المشهد ثم أعود أسترجعه على خلفية صوت الأمواج والأهازيج والزغاريد الآتية من اتجاه بيتنا: سبّل عيونه ومد ايده يحنونه غزال صغير وكيف أهله يبيعونه يا أمي يا أمي عبيلي مخداتي وطلعت من الدار ما ودعت خياتي. ..أتخيل أمي فى تلك الأيام. أستعيد ما قالته وما لم تقله. أسمعها وهي تكرر على جارة من الجارات ما سبق أن قالته لخالتي: قلت له تغرب بنتك فى حيفا يا أبا الصادق! قال اركبي القطار. سبحان الله، أسافر من بلد لبلد لأرى ابنتي؟! وماذا لو جاءها المخاض فى نصف الليل؟ وماذا لو أصابها لا قدر الله، مرض؟ ثم كيف أركب القطار، ومن يدريني كيف أركب القطار وكيف أنزل منه وكيف أذهب من المحطة إلى دارها؟ ثم كيف أركب قطارا معظم ركابه من عسكر الإنكليز ومن المستوطنين اليهود، حتى لو تركوني في حالي ولم يؤذني أحد منهم، فكيف أجرؤ على الاستعلام منهم؟ قد لا يفهمون كلامي حين أسألهم، وقد يسخرون مني، وقد يقصدون ألا يدلوني فأنزل فى المحطة الخطأ وأضيع بين البلاد، وقد أجد نفسي في كبانية من كبانياتهم، ماذا أفعل ساعتها؟ أدق الباب على اليهود واقول لهم رجعوني بلدنا؟! لماذا يختار أبو الصادق الصعب ويقول اقبلوا ما اخترت؟ لماذا لا تسكن ابنتي بجواري فلا يكلفني الذهاب إليها إلا أن انتعل حذائي وأرد شالتي على رأسي فأصلها قبل أن تنتهي من غلي القهوة التي وضعتها على النار حين أرسلت في طلبى؟ ويقول اركبي القطار! لا أدري إن كان هذا القلق الذى تمكن من أمي قلقا عاديا لامرأة لم تغادر قريتها، أم تدخل فيه وعمقه واقع مثقل بالمخاوف جعلها كما جعل غيرها، تحتمي بكل ما هو أليف ويخصها. بدت المسافة الفاصلة بيننا وبين حيفا، وهى أربعة وعشرون كيلومترا لا أكثر ولا أقل، طريقا وعرا محفوفا بالمخاطر أقرب إلى رحلة السندباد إلى بلاد الواق الواق، أو مكمن الغولة المترصدة بالشاطر حسن. لم تكن هذه المخاوف إلا لاحتمال أن يسكن صهرها المرتقب فى حيفا. كان الشاب يدرس في القاهرة، لا تعلم ولا أحد يعلم ما الوظيفة التى سيشغلها وأين. سيرحمها الله من رحلة حيفا وكيلومتراتها الأربعة والعشرين. لن يعمل الشاب في حيفا ولن تسكن ابنتها فيها. ستعيش أمي وتموت دون أن تركب القطار. لن تزور حيفا أبدا ولن تحملها لا دابة ولا سيارة إلى عين غزال ولا إلى غيرها من القرى المجاورة اللهم إلا الفريديس. ستذهب إليها في شاحنة. |
السبت، 25 سبتمبر 2010
مقطع من رائعة رضوى عاشور "الطنطورية"
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق